بسم الله الرحمن الرحيم "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" صدق الله العظيم

بيان صادر عن قيادة حركة "فتح" – لبنان

تأتي الذكرى المئوية لصدور وعد بلفور البريطاني الصهيوني في الثاني من تشرين الثاني العام 1917، وهو الذي شكَّل خنجراً مسموماً غاص عميقاً في قلب فلسطين العربية الإسلامية، أرض المقدسات والحضارات، واستطاع أن يُزوِّر التاريخ، وأن يُعيدَ تكوين الجِغرافيا على الأرض الفلسطينية التي بارك اللهُ حولها. وهكذا نجحت بريطانيا الدولة الاستعمارية الكبرى أن تدوس على مقررات الشرعية الدولية كافّةً، وعلى كافة القِيَم والمبادئ التي تتغنَّى بها جمعيات حقوق الإنسان، وتمكَّنت من تحقيق أبرز أهدافها الاستيطانية عبر التآلف الاستعماري الصهيوني لإقامة الكيان الإسرائيلي، واحتضانه، ورعايته عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً، وسياسياً، وتكريسه على الأراضي الفلسطينية، على حساب الشعب العربي الفلسطيني الذي تمتد جذوره التاريخية على أرضه إلى ما يقارب خمسة آلاف سنة.

إنَّها جريمة العصر الاستعماري الصهيوني الذي دمَّر دولة فلسطين القائمة، وشعبها المتجذِّر في أرضها منذ فجر التاريخ، ثُمَّ يُقيمُ عليها كياناً صهيونياً، مصطنَعاً ولقيطاً، تُقدَّم إليه الأسلحة الفتَّاكة من طائرات، ومدفعية، وصولاً إلى البوارج والغوَّاصات، والقنابل النووية والذرية، وتمكينه من ممارسة العنف، والمجازر، وتشريد مئات الآلاف من بيوتهم، ومدنهم العامرة، وإلقائهم في غياهب اللجوء، والتشرُّد، والضياع، وذلك كله يجري على مرأى ومسمع دول العالم التي تدَّعي الحرص على السلام والعدالة، وحقوق الإنسان.

وبعد مرور مئة عام على ارتكاب بريطانيا جريمتها التاريخية بحقِّ فلسطين، وشعبها، ومقدَّساتها، وبعد أن حقَّقت أهدافها بجعل الكيان الصهيوني دولة محورية مميِّزة عسكرياً، تضاهي الدول المحيطة بها، وتهدد أمنها، يقف العالم اليوم عاجزاً عن ردع دولة العدوان، ويضع الطاعة لها، ويسارعُ البعض إلى الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها، والصمت المطبق على مسلسل الجرائم اليومية المدروسة والمُخطَّط لها في إطار السيطرة واقتلاع العائلات وتهجيرها، ومحاصرة القدس بالاستيطان والعدوان، والتضييق على التجار إلى حدود الإفلاس، وإغلاق الطرقات بالمكعبات لشلِّ الحركة أمام العمَّال والطلاب.

رغم ذلك كلّه فإنَّ الغطاء السياسي الأميركي البريطاني الذي بدأ رسماً العام 1917، وما زال حتى الآن يحول دون معاقبة الكيان الإسرائيلي على جرائم القتل والعدوان التي يمارسها.  وأصبح مجلس الأمن الذي يخضع للرغبات الأميركية شريكاً في الجريمة، وبيئة حاضنة لها. ويبقى الشعب الفلسطيني هو الضحية الذي يدفعُ الثمن وحيداً في غياب العدالة الدولية، واندثار الحقوق الإنسانية، وتمكين الباطل من القبض على عنق الحق.

وفي هذه الذكرى الأليمة فإنَّنا نثير بعض التساؤلات، ونؤكِّد بعض الحقائق التاريخية:

أولاً: إنَّ "وعد بلفور" الذي جاء فيه: "إنَّ حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل كلَّ جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية"...

إنَّ بريطانيا التي كانت تحكم 30% من مساحة العالم كان يُهمُّها أن تستمر في السيطرة، وأن تبقى لغتها هي الراجحة في الحرب العالمية، وأن تضمَّ إليها المزيد من الدول الكبرى لمساندتها ضد ألمانيا والأتراك، وهي هنا وجدت أنَّ استرضاء الحركة الصهيونية اليافعة، والمتمكِّنة اقتصاديًّا، ومالياً، وأمنيًّا، وصاحبة النفوذ في الولايات المتحدة وغيرها هو أمرٌ ضروري كي تضمن رجحان كفَّة الحرب إلى جانبها. ولذلك آثرت بريطانيا العظمى أن تدمِّر شعباً مُتجذِّراً في أرضه، وأن تتبرَّع بأرضه إلى الحركة الصهيونية، وأن تؤسِّس لأعظم مأساة بشرية ما زالت تنزفُ ألماً، وتشرُّداً، وعذاباً، وحرماناً.

ثانياً: المُستغرب في الأمر هو أنَّ بريطانيا وبعد مئة سنة على مرور المجزرة السياسية، والأخلاقية، والإنسانية المتواصلة لم تُفكِّر بإعادة حساباتها، ولم تُحكِّم ضميرها بعد، وهي ترى بأُمِّ عينيها ماذا صنعت يداها بشعبنا الأعزل، وترفض حتى أن تعتذر لشعبنا عمَّا أصابه من نكبات بسبب سياساتها الهمجية، كما ترفض علناً الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا أضعف الإيمان.

ثالثاً: إنَّ بريطانيا حريصة على الكيان الصهيوني المحتل لأرضنا، وترفض أن تمسَّه ولو بكلمة تغضبه، أو تخدش مشاعره، لكنَّها بريطانيا نفسها هي التي استعدَتْ شعبنا، ودمَّرت وجوده، وسمحت بارتكاب المجازر الصهيونية في قراه ومدنه، ولم ترمش لها عين، لأنَّها لم تجِد مَن يردعها، ولا تجد مَن يُذكِّرها بأنَّ هناك أُمَّةً عربيّةً أو إسلاميّةً تحتضن الشعب الفلسطيني، وتسعى إلى استرداد حقوقه.

رابعاً: لقد نجحت الحسابات البريطانية في تأكيد فوزها في الحرب العالمية، وجلست على رأس طاولة المفاوضات الدولية لتوزيع الحصص، وتقاسم الأدوار، وإعطاء الوعود، وعندما سمح العرب بمرور وتكريس "وعد بلفور" في وثيقة الانتداب على حساب فلسطين، وجدوا أنفسهم في نهاية الأمر بقعاً جغرافيةً متناثرة، تخضع للاحتلال البريطاني أو الفرنسي. وتساءلوا: أين هي الوعود البريطانية لهم بحماية استقلالهم، واستعادة حريتهم بعد التخلُّص من الدولة العثمانية الإسلامية، وأيقنوا أنها أضغاثُ أحلام ليس إلاَّ.

خامساً: أصرَّت الولايات المتحدة الأميركية على أن ترث بريطانيا في احتضان الكيان الصهيوني، والحفاظ على إرث ومخلفات، وانجازات وعد بلفور، واعتبرت هذا الكيان المصطنع قاعدةً عسكريةً لها، وذراعاً ضاربةً تستخدمها متى شاءت في تعديل موازين القوى، أو في تأديب دول المنطقة، أو تنفيذ التهديدات، وإشعال الفتن الطائفية والمذهبية. إنَّ "وعد بلفور" الذي وُلد من رحمٍ بريطاني، يعيش اليوم في حضن أميركي، وهو يحظى بالرعاية والاهتمام.

إنَّ هذه الرعاية البريطانية ثُمَّ الأميركية لـ"وعد بلفور"، الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الواقع المؤلم لشعبنا. إلاَّ أنَّه آخِذٌ بالتجذُّر على يدي الولايات المتحدة الأميركية التي تعتمد عليها في المهمات الصعبة والقذرة، ولكنها في الوقت ذاته تأخذ موقفاً صارماً ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتحاربها في كلِّ المحافل الدولية.

وهي أول من أيَّد أن إسرائيل دولة يهودية قومية، وأن على الفلسطينيين أن يعترفوا بها كدولة يهودية، وهذا يعني بالطبع أن يعترف الفلسطينيون بأنَّ الأراضي الفلسطينية هي أرضٌ  يهودية وليست فلسطينية، وبالتالي على الفلسطينيين الذين ما زالوا فيها أن يغادروها، وأيضًا أن يُمنَع اللاجئون الفلسطينيون من العودة إلى أرضهم، هذه العودة التي أقرَّتها الأمم المتحدة في القرار 194، وهو القرار المرتبط بقرار الاعتراف بدولة فلسطين، ولا تستطيع إسرائيل إنكاره.

إنَّ إصرار بريطانيا على موقفها المتمسِّك برعاية وحماية الوجود الإسرائيلي على أرضنا، ورفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية يفرض علينا كشعب فلسطيني السعي إلى:

أ- إنجاز ما تبقَّى من خطوات لإتمام المصالحة، وتنفيذ ما تمَّ الاتفاق عليه من خطوات ميدانية وسياسية ووطنية تجعل الوطن بكامله وحدةً واحدة بوجه الاحتلال الصهيوني.

ب‌- تفعيل هذا الموضوع على كافة الأصعدة، واعتبار هذه المناسبة معركة سياسية مفتوحة سياسياً ودبلوماسياً، ومدعَّمةً بحراكٍ شعبي وطني فلسطيني، وقومي عربي، وأُمَمي لنُصرة الشعب الفلسطيني، وقضيّته العادلة بعد هذا الظلم التاريخي الذي نكَّل بشعبنا، وسلبَ أرضنا، وانتهك مقدّساتنا.

ولنقرع ناقوس الخطر السياسي والإنساني كي يصحو العالم إلى ما يتم ارتكابه من فظائع بحقِّ شعبنا.

ج- آن الأوان أن تجتمع الجامعة العربية لبحث تداعيات هذا الإجرام البريطاني المتعمَّد بحقِّ شعبنا، وأن تضغط دولياً لإنصاف شعبنا ورفع سيف الظلم عنه، وإرغام بريطانيا على الاعتراف بجريمتها، والتعويض على شعبنا المكافح سياسياً بالاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، والاعتذار عن الجريمة المتعمَّدة، ومادِّياً بالتعويض على شعبنا بكل ما سبَّبه له هذا القرار الجائر من سلب أرضنا، وقتل أهلنا، وتشريدهم ومعاناتهم في المخيَّمات والشتات منذ العام 1948 وحتى هذه اللحظات.

إنَّ شعبنا الفلسطيني، وبعد سبعين عاماً من التشرد والمعاناة ينتظر من العالم الحر، ومن الجمعية العمومية، ومن مجلس الأمن ومن الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالدولة الفلسطينية كعضو مراقب تحت الاحتلال وعاصمتها القدس الشرقية، ينتظر من الجميع إنتفاضة حرة على الظلم والقهر والعدون، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وحماية شعبنا من البطش الإسرائيلي والعدوان الصهيوني المتواصل على الاراضي الفلسطينية، وعلى المقدسات الاسلامية والمسيحية.

التحية الى كل أبناء شعبنا الصامد والصابر والمجاهد في الداخل والشتات.

التحية إلى قوافل الشهداء الابرار، والجرحى الصامدين.

التحية إلى أبطال الصمود والصبر في المعتقلات والزنازين.

وإنها لثورة حتى النصر 

حركة "فتح" الساحة اللبنانية

30/10/2017