عنوان المقالة أصلاً هو عنوان لكتاب المؤرّخ الإسرائيلي موشيه تسيمرمان (الخوف من السلام: المأزق الإسرائيلي). "إسرائيل كدولة أُنشِئَت على عامل القوّة، وما زالت تعتمدُ على القوة الذاتية لتوفير الأمن والبقاء لها، وهذا قد يخالف الدول العادية التي تعيش في علاقات عادية وطبيعية مع الدول الأخرى. وليس معنى ذلك انتفاء عنصر القوّة باعتباره أحدَ أهمّ أدوات الدول في تحقيق أهدافها القومية، وأهم هذه الأهداف الأمن والبقاء. لكن الأمر بالنسبة لإسرائيل يختلف. "إسرائيل" كدولة تقع في قلب المنظومة العربية التي لم تنجح حتى الآن في الحصول على اعترافها وقبولها كدولة عادية، لأنَّ هذا مرتبطٌ بطبيعة وجوهر الصراع الذي يحكم علاقة "إسرائيل" بالمنظومة والدول العربية، الأساس في العلاقة الصراع والنزاع والسبب الجوهري يكمن في عدم استعداد "إسرائيل" للقبول بالدولة الفلسطينية، وتسوية الصراع مع الفلسطينيين وهم جوهر الصراع. ولذلك حكمت العلاقات فلسطينيًّا وعربيًّا خيارات الحرب والقوة العسكرية، فمنذ نشأة "إسرائيل" قامت العديد من الحروب الكبرى، أربعة حروب أخذت طابعًا عربيًّا شاملاً، وعدد من الحروب مع الدول العربية كلبنان والفلسطينيين. هذه الحروب، وهذا هو المهم، لم تجلب لإسرائيل الأمن والسلام، بل أوجدت حالةً من الخوف وهذا هو العنصر الثاني الذي تقوم عليه السياسة الإسرائيلية. الخوف من الآخر، والآخر هو العربي والفلسطيني. عنصر الخوف هو الذي يفرض على "إسرائيل" رفض أي حلولاً سياسية، وقبولاً بالعلاقات العادية مع الآخرين، لأنَّه قد يُفقِدها أحد المبررات الرئيسة لوجودها. وسياسة الخوف التي وقفت وراء رفض كل محاولات الاندماج في المجتمعات التي يوجد فيها اليهود وخصوصًا في مرحلة التكوين والنشأة، وفي مرحلة ما بعد الدولة، وهي السياسة التي تُفسِّر لنا استمرار سياسات الفيتو المتبعة حاليًّا في العلاقات مع الفلسطينيين. ولو أنَّ سياسات التعايش المشترك نجحت بين الفلسطينيين والإسرائيليين ما وصلنا لهذه الدرجة من التأزُّم في العلاقات، والرفض لأيِّ سلام حقيقي بين الطرفين، الذي أساسه انتزاع عنصر الخوف من كلا الطرفين، وهذا هو الخيار الحتمي لأي سلام. "إسرائيل" تربط السلام بعنصرَي القوة والخوف، ولذلك ترفض صيغ السلام التي تقوم على الاعتراف بالحقوق السياسية للفلسطينيين وخصوصًا أنَّ السلام يقوم على عنصرين أساسيين هُما: الأرض والسكان. وعنصر الأرض يُشكِّل فكرة محورية لإسرائيل تقوم على الملكية المطلقة ورفض أي شكل من الملكية للفلسطينيين، وتنظر إليهم على أنَّهم مجرد ساكنين أغراب أو رُحَّل عابرين ولذا تصرُّ على ضرورة الاعتراف اليهودي بالأرض، وهو ما يعني حرمان الفلسطينيين من أي حقٍّ في قيام الدولة الفلسطينية وهي أساس أي عملية سلام، والتي على أساسها تقوم المبادرة العربية التي تفتح الأبواب واسعة أمام قبول "إسرائيل" دولة عادية في المنظومة العربية، المبادرة العربية تقوم على فكرة الأرض وانسحاب "إسرائيل" من الأراضي التي احتلَّتها في حرب حزيران 1967، وهذا سبب رفضها للمبادرة. أمَّا العنصر الثاني وهو عنصر السكان وهو العنصر التفاعلي لعملية السلام، فـ"إسرائيل" تخشى من غلبة العنصر السكاني الفلسطيني والعنصر العربي، وترفض كل صيغ التعايش المشترك، وصيغ توسيع الحقوق، ورفض فكرة الدولة الواحدة بكل أشكالها، ورفض فكرة الدولتين استنادًا لعنصر الأرض. واليوم "إسرائيل" تحكمها أحزاب يمينية ترفض كلَّ صيغ السلام مع الفلسطينيين، وتسعى جاهدة لتطبيق عنصري الأرض والسكان من خلال التوسُّع الاستيطاني غير المسبوق في الأراضي الفلسطينية، ومحاولة زيادة عدد المستوطنين ليتجاوزوا اليوم المليون نسمة لفرض الحقائق على الأرض، وهما العنصران النقيضان للسلام، هذه السياسات تُشكِّل أكبر خطر على مستقبل "إسرائيل" وبقائها لأنَّ الخطر الحقيقي هذه المرة يأتي من داخلها، ولذلك بدأنا نسمع معارضة، وإن كانت غير قوية ضد السياسات التي تبنتها الأحزاب اليمينية والليكودية التي لا تُؤمِن بفكرة الدولة الفلسطينية كأساس للسلام ليس الفلسطيني فقط بل السلام الشامل على المستوى العربي. وتدرك "إسرائيل" خطورة السلام من منظور الحقوق والشرعية الدولية التي تظهر "إسرائيل" بالدولة التي لا تحترم قبولها كدولة عضو في الأمم المتحدة، والتي بات من أهم مظاهرها انسحاب "إسرائيل" من بعض المنظّمات الدولية كـ"اليونسكو". ومن مظاهر رفض "إسرائيل" للسّلام مصادرة الأراضي الفلسطينية، وسياسات الاستيطان والاعتقالات وتضييق ممارسة المواطن الفلسطيني لحقوقه الآدمية، وسياسات الحصار واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية وللشعب الفلسطيني. هذه السياسات بدأت تجِد رفضًا لها على المستوى الدولي من زاويتين الأولى بالمقاطعة والانتقاد الذي يُمارَس لأولّ مرة ضد "إسرائيل" وسياستها، ومن زاوية أخرى بدعم الجهود الفلسطينية في المنظمات الدولية وفي القرارات التي تصدر ضد سياسات "إسرائيل" الاحتلالية كما رأينا في "اليونسكو". ولإنجاح هذه السياسة يتوقف تفعيل خيار السلام على إدراك الفلسطينيين أهميّة وحتميّة خيار السلام القادر على احتواء "إسرائيل" وإلزامها في النهاية للخضوع لإرادة السلام الدولية.