‏  بعدَ التوقيع على أول بروتوكول من بنود المصالحة، والمتعلِّق "أساسًا" بتمكين الحكومة بالعمل في غزة ‏‏كما الضفة الغربية، كثيرة هي المحاور التي يمكننا الدخول لها، والبدء بمناقشة عميقة لما قبل وأثناء ‏وبعد ‏توقيع اتفاقية المصالحة الفلسطينية، ولا يمكن أن نبدأ قبل أن نُسجِّل للتاريخ أنَّ الرئيس محمود ‏عبّاس، قد ‏عمِلَ بكل قوّة ومنذ الانقسام على صيانة الدم الفلسطيني، بل وقام بالدعوة بعد أيام ‏قليلة من الانقسام ‏للبدء بحوار وطني شامل في الوقت الذي كان الاحتقان فيه قد وصل إلى أعلى ‏مستوياته، ولكنّه بحكمته ‏استطاع أن يمضي قدمًا وبأمانة وطنية في إعادة القاطرة إلى موقعها ‏الصحيح، وبدأت الحوارات ‏والمناقشات والاتفاقات وفشلت وتباطأت ونجحت وتعثَّرت، وحتى وصلنا ‏إلى المحطة الرئيسة اليوم والتي قرَّر ‏فيها وبوضوح أن القرار الفلسطيني اليوم هو المصالحة ولا يوجد غير ‏المصالحة، وأنَّ تكرار أي تجارب فاشلة ‏اليوم أو لاحقًا مرفوض، وبهذا تمَّ توقيع اتفاق المصالحة في ‏منتصف يوم الخميس 12 تشرين الأول استنادًا ‏لاتفاقية 2011، ليبدأ العمل الفعلي في تطبيق كلِّ ما ورد ‏في الاتفاق تباعًا ووفق جدول زمني مُتَّفق عليه ‏وصولاً إلى إنهاء الانقسام وعودة السيادة القانونية ‏للسلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة ووحدة ‏المؤسسات في دولة فلسطين.

إنَّ عودة السيادة إلى قطاع غزة، تتم من منطلق وبقاعدة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثّل ‏‏الشرعي والوحيد لشعبنا، وأنَّ المشروع الوطني بما يشمل المصالحة والشراكة والانتخابات والمجلس ‏الوطني ‏والمصالحة المجتمعية كلّها أصبحت في منظور الفعل لمعالجة منظمة لتداعيات السنوات العشر ‏السوداء ‏الماضية، والتي أثَّرت على كل مناحي الحياة القانونية والإنسانية والسياسية والاقتصادية، في ‏قطاع غزة ‏خاصة، وبذلك يمكن اعتبار توقيع الاتفاق هو البدء بتطبيق استراتيجية عنوانها أنَّ ‏القرارات المصيرية من ‏صميم البرنامج السياسي وأنَّه من غير المقبول أن يتمَّ التفرد أو العمل خارج ‏الوفاق الوطني.

إنَّ جمهورية مصر العربية قد احتضنت الجهود الفلسطينية، وقاربت بين وجهات النظر والاختلاف ‏وعزَّزت ‏الاتفاق، وكان الحضور المصري الأمني ومن جهاز المخابرات تحديدًا قد رافق كلَّ مراحل بناء ‏المصالحة قبل ‏قدوم حكومة الوفاق الوطني لغزة وأثناء وجودها، وأيضًا رعاية كاملة لثلاثين ساعة ‏مكثّفة وعبر لقاءين بين ‏حركتَي "فتح" و"حماس"، وكان القرار "إنَّ الفشل ممنوعٌ والعودة للوراء محرّمة، وأنَّ ‏توقيع اتفاق المصالحة ‏فرض"، وهكذا تمَّت معالجة الملفات، وأهمّها ملف الأمن الذي سيتم إنهاؤه من ‏خلال لجنة إشرافية ‏مكوّنة من المخابرات المصرية وحركتَي "فتح" و"حماس"، ولا يعتبر نقل ‏الملفات إلى فترات زمنية قريبة فشل ‏في المعالجة بقدر أنَّها إعطاء فرصة أوسع وأعمق للمعالجة الشاملة، ‏وتذويب كل المعيقات والبدء بمرحلة ‏جديدة وطنية مع إنهاء جزئيات كلِّ ملف.

نعم المراقبون والمحلَّلون وجدوا أن متغيّرات داخلية في حركة "حماس" قد أحدثت تغييرًا في قيادتها، وغير ‏‏بعيد ميثاق "حماس"، والذي وضع "حماس" في وضعية الترقب لدى الإقليم ‏والعالم، وباعتقادي أنَّها بإنهاء ‏الانقسام وحكمها لقطاع غزة ستجتاز مرحلة مهمّة بالدخول مرة أخرى ‏في العملية السياسية.

إنَّ اتفاق المصالحة قد أوجدَ ترحيبًا واضحًا من معظم دول العالم وخاصّةً من الاتحاد الأوروبي وروسيا ‏‏ودول بالإقليم وخاصة تركيا وأيضًا من جامعة الدول العربية ومواقف واضحة من عواصم عربية قد ‏عبرت ‏عن ارتياحها من إنهاء الانقسام وبدء مرحلة وطنية تحت ظلال المصالحة الفلسطينية، ممّا ‏يستدعي بذل ‏الجهود وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي والخبرات، لإنجاح الاتفاق بملفاته كافّةً، ‏وصولاً إلى توحيد ‏الجغرافيا الفلسطينية، وهذا يتّصل بالحراك السياسي الفلسطيني من أجل حلِّ ‏الدولتين وإنهاء الاحتلال ‏وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وبنفس الوقت مواجهة ‏الاحتلال بالمقاومة الاستراتيجية ‏الشعبية، التي أتوقَّع أن تتنوَّع وسائلها المشروعة، ممّا يُدخِل "إسرائيل" ‏في عزلة سياسية ودولية ظهرت ‏معالمها قبل المصالحة وبعد إعلان الاتفاق، وتشنُّجات تصريحات ‏حكومة نتنياهو العنصرية والمتطرفة، حيث ‏اشترطت الاعتراف بالدولة اليهودية، وهذا الشرط ‏المرفوض دائمًا من القيادة الفلسطينية، حيثُ أنَّ ‏المرجعية الدولية هي أساس أيِّ عودة لعملية ‏السلام، وأنَّ وقف الاستيطان وعودة "إسرائيل" لحدود ‏‏1967 يسبق أي اتفاق دولي‎.
______________________________________________________________________‎

**ثلاثة أجزاء متتالية من المقالات يُجيب فيها د.مازن صافي عن سؤال يحمل عنوان ‏المقالات‎" :اتفاق المصالحة، وماذا بعد؟".