أن تتم أو لا تتم المصالحة، لم يعد محل تساؤل أو شك، فلقد وقَّعَ الطرفان اتفاقاً يتضمن خارطة طريق لكيفية تنفيذ اتفاق القاهرة في العام 2011، غير أن التساؤلات لم تتوقف. لم يغير الفلسطينيون عاداتهم، إذ كان من المأمول أن يتم نشر ما تم الاتفاق عليه، خاصة وأنه ليس بحاجة إلى مصادقة من أي جهة. ما يتداول الناس، هو مجرد تسريبات تحتمل التفسير، وكأن الاتفاق وتنفيذه يخص شعباً آخر، أو أنه ينطوي على ما يدعو للخجل من قبل الذين وقَّعُوا عليه. كان من المأمول، أيضاً، أن يتلقى الناس الذين دفعوا ثمن الانقسام، اعتذاراً من الطرف والأطراف التي تتحمل المسؤولية، لكن هذا لم يحصل والأرجح أنه لن يحصل. يعكس ذلك ضعف الاهتمام بالجماهير الفلسطينية أو أنه يعكس نظرة استعلائية لا تليق بالشعب ولا تليق بالقضية. ولأن مصالح المجتمع، وحاجاته، لا تقع في أولوية سلم الاهتمام الذي تتصدره مصلحة الفصيل، فبإمكان هؤلاء أن يتجاهلوا أو يتباطؤوا في تقديم بعض الإنجازات الملموسة للناس، الذين احتفلوا بتوقيع اتفاق المصالحة، ثم عادوا إلى بيوتهم ينتظرون. يحصل ذلك رغم كثرة الحديث عن الالتزام بالمصلحة الوطنية العليا، هذه المصلحة التي يعرفها كل فصيل وكل مسؤول وكل إنسان على طريقته الخاصة.

من المؤكد أن المسألة تخرج عن السياق التربوي، فلقد صبر الناس حتى عيل صبرهم، ولم يعودوا بحاجة إلى المزيد من الدروس والمواعظ، في كل حال فإن الامتحان قادم لا محالة، فبإمكانهم اليوم أن يقرروا ما شاؤوا من خلال الحوار والتوافق، وفي ذلك مصلحة للناس، لكنهم سيخضعون يوماً لامتحان صناديق الاقتراع. صناديق الاقتراع ليست مضمونة لأحد، ولا يملك مفتاحها، إلاّ الذين أكلوا الحصى، ودفعوا الدم والدموع، والأرجح أن صناديق الاقتراع في المرة القادمة لن تبقى الحال على ما يتوقعه كل فصيل ومسؤول لنفسه.

الاتفاق تم، والتنفيذ سيبدأ في وقت ما غير معلوم، وهو اتفاق شامل لغزة والضفة، وينطوي على التزامات مهمة، تعطي السلطة الوطنية الفرصة للتحرك السياسي وملاقاة الحراك السياسي الدولي بدون عقبات. لقد حصل ذلك في وقت سابق ففي الاحتفال الذي أقيم في مقر المخابرات المصرية، العام 2011، وقف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك خالد مشعل، وأعطى فرصة للحراك السياسي نحو البحث عن السلام. في هذه المرة لم يقف أحد، ليكرر ما كان أعلنه مشعل، لكن طبيعة الاتفاق وضماناته تؤكد أنه يعطي التحرك السياسي نحو السلام فرصة أخرى ومن موقع المشاركة المباشرة في النظام عبر حكومة وحدة وطنية لا أرى سبباً لأن تكون حركة حماس خارجها. حتى لو بقيت حكومة الوفاق الحالية، كما هي، أو إذا تم إدخال عناصر جديدة إليها، فإن الأمر لن يختلف طالما أن ثمة اتفاقا على أن تواصل عملها استناداً إلى برنامج منظمة التحرير أو برنامج الرئيس.

محلولة قضية السلاح والكتائب مؤقتاً، طالما أن قرار السلم والحرب سيخضع وفق صيغ معينة، للقيادة الوطنية التي يشترك فيها الجميع وذلك يشمل الأعمال العسكرية في الضفة الغربية، الأمر الذي سيعكس نفسه على ملف الحريات السياسية، وأيضاً على ملف التنسيق الأمني.

في هذه المرة، لا تستطيع إسرائيل أن تشكل تهديداً على اتفاق المصالحة، بالوسائل التي اعتادتها في السابق، ولذلك فإن خطابها مرتبك. كان بود رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يقدم له اتفاق المصالحة، ذريعة لشن حرب أخرى على قطاع غزة حتى يهرب من الملاحقات القضائية التي تقترب من لف الحبل حول عنقه غير أن هذا لم يعد أمراً ممكناً. كما لم يعد لديه فرصة للهرب من خلال حل الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة ولذلك عليه أن يواجه الحقيقة مباشرة. يبقى لنتنياهو فرصة التخريب على المصالحة، من خلال تصعيد الموقف في الضفة الغربية، حيث سيستغل الهدوء الذي توافق عليه المتحاورون في القاهرة، فيلجأ إلى تصعيد الاستيطان والتهويد والاعتداءات. حرب باردة يخوضها نتنياهو وحكومته، لكنها، أيضاً، لن تكون سهلة حيث عليه أن يراعي، الأطراف التي تقف خلف المصالحة وأهمها الولايات المتحدة، والرباعية الدولية، التي تتطلع إلى تحريك عملية السلام.

لا يستطيع نتنياهو المغامرة، فالاتفاق يتم بضمانة مصرية، يحرص على ألا يغضبها، وبضمانة دولية واضحة، كان آخرها ما صرح به توني بلير الذي اعتذر عن قطع العلاقة مع حركة حماس خلال المرحلة السابقة.

تدرك حركة حماس، اليوم، الطريق الذي ينقذها من نفسها ومن طريقة عملها من أجل تحقيق أهدافها، حتى أهدافها الخاصة كحركة، فهي اليوم، أمام طريق مفتوح لتحسين علاقاتها ودورها، على المستويين العربي والدولي، وبإمكانها لبعض الوقت أن تتصرف بدون ملاحقتها بتهمة الإرهاب، حتى لو لم يجر حذفها من القائمة الآن. وتدرك "حماس"، أيضاً، أن شرعية صندوق الاقتراع، ولا حتى شرعية المقاومة، يمكن أن تمنحها الشرعية، ذلك ان شروط الشرعية في هذا الزمان مختلفة وشاملة، بمعنى أنها شرعية فلسطينية عبر المؤسسة الوطنية واستناداً إلى القانون ثم شرعية عربية ودولية. بهذا الإدراك يطمئن المواطن إلى ما يجري هو إعادة صياغة للنظام، سواء قصد ذلك المعنيون أم لا.