بقلم: الحاج رفعت شناعة

   عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"

   لقد استطاع الرئيس الفلسطيني في خطابه الأخير على منبر الأمم المتحدة، وعلى مرأى ومسمَع أمم الأرض كافّةً، أن يضع النقاط على الحروف لتزداد وضوحاً، وفصاحةً، وعُمقاً سياسياً، وتجذُّراً في أعماق القضية الفلسطينية التي شغلت العالم بما واكبها من مجازر أصابت شعبها من دير ياسين، وكفر قاسم إلى صبرا وشاتيلا، وجنين وبيت حنون، وما واجهه الشعب الفلسطيني من تشتيت وتهجير، وقمع وتنكيل، واقتلاع. وما زالت حلقات التآمر على وجوده تتماسك، وتتفاعل، لتشديد الخناق على هذا الشعب الذي استطاع بعد النكبة، ورغم مرارة التشريد والضياع أن يستعيد هُويته، وكيانه الوطني، وأن يُمسك بزمام المبادرة، ليكون المؤسِّسَ لأعظم ثورة في هذا العصر، استطاعت بالكفاح الوطني المتواصل، وبعد تقديم الشهداء، والأسرى، والجرحى، وأنهار من الدماء والتضحيات أن تفرض على دول العالم الاعترافَ بوجود شعبنا، وأنَّ "م.ت.ف" هي الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

ونستطيعُ القول بأنَّ الخطاب الشهير اتَّسم بالواقعية، ((هي المصطلح الذي يُطلَق على نتاج فكري يعتمد الحَياةَ الإنسانية والطبيعية، وكلّ ما يدخل في نطاق الإدراك الحسي، والأمور الجارية في محيط الإنسان، وهذا المذهب كما هو معروف تأثَّر بالفلسفات الاجتماعية والوضعية، والتجريبية والمادية)) [1].

إنَّ الرئيس أبو مازن اختار هذه المنصّة الدولية كي يُقدِّمَ جردةَ حساب واضحة بما له، وما عليه، كقائد لديه خبرته وتجربته المؤصَّلة عبر سنوات طويلة. ولعلَّ جردة الحساب هذه المرة، بل هذه السنة كانت في قمّة الموضوعية، والجرأة، والدقّة، وبعيدةً عن كلِّ المجاملات، والعواطف. ومردُّ هذا الأمر إلى ضخامة وخطورة الأحداث والتطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وبعد الانهيارات المتسارعة في القِيَم، والعدالة، وإغراق المنطقة بالدّم العربي، لريِّ الأطماع الصهيونية في الوطن العربي، بعد هذا كلّه لم يبقَ أمام سيادة الرئيس إلاَّ أن يخاطب المجتمع الدولي بكامله، ووجهاً لوجه، ومن موقع المسؤولية التاريخية عن شعبه، وقضيته العادلة.

ما جاء في خطابه وعلى لسانه لم يكن كلاماً عادياً، فهو لم يختبئ خلف أية كلمة أو مصطلح، وإنَّا سمَّى القضايا بأسمائها بل، وزاد في التفسير والتوضيح. جاء الرئيس ليؤدي الأمانة بوضوح كضوء النهار، وبعيداً عن الالتباسات، والملابسات، وهو يتحمَّل المسؤولية الكاملة كقائد للشعب الفلسطيني عن تحديد معالم الواقع الاحتلالي العدواني، وأيضًا الرؤية المستقبلية لطبيعة الصراع من أجل تحرير الارض، وإزالة الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

إنَّ الرئيس يدرك في قرارة نفسه أنَّ كلامه سيتفاعل عند البعض سلبيًّا، وعند البعض الآخر إيجابيًّا، وأنَّ المعركة شاقّة وليست سهلة، خاصّةً التراجع الواضح في مواقف بعض الدول الصديقة والعربية التي تضع مصلحتها الأمنية والاقتصادية فوق مصالح الشعب الفلسطيني، وبعضها قد سارع إلى التطبيع على حساب شعبنا. وبالتالي فإنَّ هذه الفرصة التاريخية للكلام أمام كلِّ وفود العالم، الأصدقاء منهم والأعداء، لها أبعادها، وامتداداتها، وارتداداتها الصريحة، لكنَّها بالفعل لحظة حسم المواقف، حتى لا تبقى هيئة الأمم المتحدة بجمعيتها العمومية، ومجلس أمنها، ومؤسساتها الدولية ساحة للعبث الأميركي والإسرائيلي بالعدالة الدولية، وبمصير وحقوق الشعوب الفقيرة، والتآمر على مصائرها وحقوقها.

إنَّ الصرخة المدوية التي أطلقها الرئيس محمود عبّاس بوجه قادة العالم ستحفر عميقاً في أذهانهم، وكلماتُهُ ستدقُ مسامع الذين اختاروا أن لا يسمعوا صرخات وبكاء، وآلام نسائنا، وأطفالنا في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، وفي القدس والخليل.

إنَّ الرئيس يدرك تماماً أن الصوت المرتفع الذي دوَّى في قاعة الأمم المتحدة، والحقائق التي صفعت الكثير من الوجوه الكالحة، وأقعدت الكثيرين عن النطق أو الحركة، أو حتى الابتسامة، تحتاجُ إلى إستراتيجية واضحة في المواجهة الميدانية، واختبار القوة، وتحديد معالم المرحلة القادمة، خاصّةً أنَّ الشعب الفلسطيني أصبح اليوم يتسلَّح بالوحدة الوطنية هذا السلاح الذي افتقدناه منذ عشر سنوات عندما تسلَّح به الاحتلال لاقتلاعنا من أرضنا. وهذا يعني أنَّ الضرورة باتت تفرض علينا جميعاً أن نُحِكمَ السيطرةَ على وحدة شعبنا، وأن نُفعِّل مقاومتنا الشعبية في إطار مشروعنا الوطني، لمواجهة التحديات اليومية التي يترجمها الاحتلال عنفاً، وقتلاً، واعتقالاً، وتهجيراً، وتدميراً. وهذا يعني ضرورة استنهاض الهمم لتكريس واقعٍ جديد يستند إلى القرارات التي تمَّ إنجازها على الجبهة السياسية والدبلوماسية.

انطلاقاً من واقع الصراع المرير، وواقع الاحتلال المتواصل منذ خمسين سنة شكَّل الرئيسُ مكوِّنات اللوحة الفلسطينية التي عرضها أمام العالم بكل  جرأة، باعتبارها الدليل الواضح على حقيقة الجريمة السياسية والبشرية، والحقوقية، والجغرافية التي ارتكبها العدو الإسرائيلي.

فعلى الصعيد الدولي،: كان الرئيس جريئاً وواضحاً في تحديد معالم جريمة نكبة الشعب الفلسطيني، فالمجتمع الدولي لم يستطع حماية قراراته المتعلقة بالعدوان الإسرائيلي منذ 1948، وهذا التواطؤ الدولي مع الاحتلال الإسرائيلي شكَّل غطاء للكيان الصهيوني كي يمارس كلَّ أشكال العنف والاستطيان والعدوان ضد الشعب الفلسطيني وأطفاله ونسائه وشيوخه، والعالم يتفرَّجُ، ولا يجرؤ على محاسبة الكيان الإسرائيلي. هذا الموقف اللاأخلاقي من المجتمع الدولي تجاه شعبنا عزَّز الفرصَ الدائمة لدى الاحتلال لمزيد من السيطرة، والاستيطان، وطَرْدِ  الفلسطينيين، وتدمير بيوتهم في إطار سياسة جهنمية، هدفها الأول تعزيز الاحتلال على حساب حرية واستقلال الفلسطينيين. واعتبر الرئيس أنَّ استمرار الاحتلال وصمة عار في جبين دولة إسرائيل والمجتمع الدولي، وبالتالي فإن من حق الشعب الفلسطيني الذي طُرد  من أرضه من خلال مؤامرة نفذتها بريطانيا لإقامة هذا الكيان الإسرائيلي على حساب شعبنا وارضنا، أن يطالب الجمعية العامة بمحاسبة هذا الكيان العنصري، وطرده من أرضنا. وهذا حق لشعبنا لن يتنازَل عنه.

كما اعتبر الرئيس أن هناك مسؤولية تاريخية تقع على عاتق الجمعية العمومية، ومجلس الأمن بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني الذي مازال يعيش تحت الاحتلال، بعد أن حصلت سلطات الاحتلال على الغطاء الكامل من مجلس الأمن للبطش بالشعب الفلسطيني، واستباحة دمائه، وأرضه، وحرمانه من حقوقه الوطنية دون رادع.

إنَّ المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية الحالة التمردية الإسرائيلية على قرارات الشرعية الدولية، فهي التي ترفض كافة القرارات، كما ترفض كافة المبادرات الدولية التي طُرِحت حتى الآن، وخاصة المبادرة العربية للسلام التي تنص على مجموعة نقاط، أبرزها الانسحاب الإسرائيلي مقابل التطبيع، وإيجاد حل عادل لموضوع اللاجئين استناداً إلى القرار 194. وللأسف فإن هذا الكيان العنصري يصر على تجاهل موضوع اللاجئين من جهة، وفرض صيغة جديدة للمبادرة العربية تقوم على التطبيع أولاً، وهذا ما استجابت له بعض الدول العربية.وهو ما أضعف القضية الفلسطينية، ووضعها في مأزق حقيقي.

ولاشك أن المجتمع الدولي يتحمل المسؤولية كاملة عما تقوم به سلطات الاحتلال العنصري، خاصة في القدس، والأقصى، والانتهاكات اليومية التي تقوم بها من أجل تهويد القدس، وتوسيع الاستيطان، وطرد العائلات العربية بعد مصادرة وجرف البيوت. يجري كل ذلك على مرأى كل الهيئات الدولية، وأصبح واضحاً أنَّ هناك موافقة ضمنية وعلنية من مجلس الأمن على المخططات الإسرائيلية دون رادع.

من الواضح أن التشجيع الدولي للاحتلال الإسرائيلي من خلال عدم الاعتراض أو الاحتجاج على تدمير عملية السلام الجارية بشكل ممنهج بأْيدي الاسرائيليين، لدليل واضح على تلبية الرغبة الأميركية بإطلاق يد الاسرائيليين في الأراضي الفلسطينية لتحقيق طموح، وجموح الجانب الإسرائيلي، والاستعجال في رسم ما تبقى من خرائط الاستيطان، والتهويد، وإِحكام السيطرة على الأراضي المحتلة العام 1967.

انطلاقًا من هذا الواقع المرير والمعقَّد جاءت واقعية الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بتحديد معالم المسيرة الفلسطينية الكفاحية في هذه المرحلة، والتحديات القائمة، وتحميل المسؤوليات لكل من أجرم بحق شعبنا، ولكل من بنى أمجاداً وسلطاناً على حساب القضية الفلسطينية. أصرَّ الرئيس وبجرأة الفلسطيني الشامخ بانتمائه، والملتزم بانتسابه إلى مدرسة الفتح، مدرسة الرمز ياسر عرفات، أصرَّ أن يضع النقاط على الحروف، وأن يُفهِمَ الجميع بأن القضية الفلسطينية هي قضية المقدسات، وأرض الرباط، والأقصى الذي صلَّى فيه الانبياء، وأرض المعراج، ومهد المسيح عليه السلام، والقبلة الأولى، وفي أرضها دُفن الصحابة الأوائل، من هذا المنطلق حدد لائحة الاتهام دون الالتفات إلى الوراء:

أولاً: "لقد اعترفنا بدولة إسرائيل على حدود العام 1967، لكن استمرار رفض الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بهذه الحدود يجعل من الاعترافَ المتبادل بيننا وبينهم الذي وقَّعناه في اوسلو عام 1993 موضع تساؤل".

وهذا إنذار واضح إلى الكيان الصهيوني بأنَّ الاعتراف من طرف واحد لن يدوم، لأنَّ السلطة الوطنية أساساً هي وسيلةٌ للوصول إلى إقامة الدولة المستقلة، وليست هدفاً بحد ذاتها، وفي مثل هذه الحالة، على الاحتلال أن يتوقَّع التصعيدَ في المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، وأن تتحول السلطة الوطنية بحكم الواقع الجديد إلى سلطة مقاومة للحفاظ على الحقوق والإنجازات الوطنية، وتحرير الأرض من الاستيطان، والتهويد، والاحتلال العدواني والاقتلاعي وليس "الاحتلال المزعوم" كما تدَّعي الولايات المتحدة التي لا تريد أن تفهم أو أن ترى الحقيقة الناصعة.

ثانياً: "إنَّ استمرار هذا الاحتلال يُعتبر وصمة عار في جبين دولة إسرائيل أولاً، وفي جبين المجتمع الدولي ثانياً، ويقع على عاتق هذه المنظمة الدولية مسؤولية قانونية وسياسية وأخلاقية وإنسانية لإنهاء هذا الاحتلال...".

إنَّه اتهام مباشر وجريء، وبكلمات جارحة، ومؤلمة بحجم الألم الذي يعانيه شعبنا بسبب تخاذل المجتمع الدولي، ورفض محاسبة هذا الكيان العنصري الذي يرتكب الجرائم بكل أشكالها يومياً، حتى أصبح الاحتلال فوق المساءَلة، أي أقوى من الشرعية الدولية، لكنه طبعاً لن يكون أَقوى من إرادة وايمان، وتصميم الشعب الفلسطيني، وعليه أن يتذكر الصفعةَ العنيفة التي كالها شعبنا للاحتلال وجبروته. فشعبنا يمهل ولا يُهمل.

ثالثاً: "إنَّ تجفيف مستنقع الاحتلال الاستعماري في أرضنا، وإِنهاء ممارساته الظالمة وغير القانونية ضد أبناء شعبنا، سيكون له عظيم الأثر في محاربة ظاهرة الإرهاب...".

يقول الرئيس للعالم إنَّ مصدر الارهاب الدولي، ومنبعه الحقيقي يتمحور في سلوك وفلسفة الاحتلال الصهيوني الإجرامية، والدموية ضد أبناء شعبنا، ومن صنع داعش والارهاب الدولي هو نفسه الذي يرعى الإرهاب الصهيوني. ومحاربة الإرهاب الدولي وتجفيف مصادره يجب أن تبدأ من محاربة الاحتلال الإسرائيلي.

رابعاً: "... عرضنا على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يؤكِّد التزامه بحل الدولتين، وأن يجلس معنا إلى الطاولة لنرسم الحدود بين إسرائيل ودولة فلسطين، لكي نفتح المجال امام مفاوضات جادة تعالج بقية قضايا الوضع الدائم، وللأسف فإنَّه يرفض مثل هذا العرض".

إنَّه إنذار واضح موجَّه إلى المجتمع الدولي بأن شعبنا قدَّم كلَّ ما عنده من مساعٍ لتحقيق السلام، إلاَّ أنَّ هناك رفضاً كاملاً من نتنياهو. فلماذا يقف المجتمع الدولي بكل هيئاته عاجزاً عن إرغام الاحتلال الصهيوني بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية؟

وهنا يُصبح ظهر الشعب الفلسطيني إلى الحائط، ولا يمكنه البقاءَ صامتاً، وإنَّما عليه مسابقةُ الزمن، والمسارعة إلى استنفار طاقات، وقدرات، وخبرات الشعب الفلسطيني الميدانية، والثورية، قبل فوات الاوان، فنحن من فجَّرنا الثورة، واستعدنا الهوية، ولقَّنا جيش الاحتلال دروساً قاسية في معركة الكرامة، وفي معركة صمود بيروت العام 1982، ونحن خضنا الانتفاضة الأولى والثانية. فنحن أصحاب القرار، ونحن الرقم الصعب، ونحن شعب الجبارين، ونحن نعرف ماذا نريد، لكن لن نبقى صامتين.

خامساً: ".... لا اتزال إسرائيل مستمرة في التنكر لالتزاماتها تجاه عملية السلام وتصر على إفشالها باستمرارها في بناء المستوطنات في كل مكان، لم يعد هناك مكان لدولة فلسطين، وهذا غير مقبول لنا ولكم، وعليكم المسؤولية وتنكرها لحل الدولتين، الأمر الذي اصبح يشكل خطراً حقيقياً  على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ما يفرض علينا القيام بمراجعة استراتيجية شاملة لهذه العملية".

عندما يصبح الكيان الصهيوني هو المُهيمن على قرار الحرب والسلام في العالم، وعندما يُمنح  الفرصة الكاملة لبناء المستوطنات لمنع الشعب الفلسطيني من إقامة دولته، أي تدمير حل الدولتين فإنَّ الضرورة تقتضي ودون تردد القيام بمراجعة استراتيجية شاملة لهذه العملية. وعندما تصبح عملية السلام مقعدة، وبدون رجلين، ومصيرها بيد الكيان الإسرائيلي، نصبح نحن في حلٍّ من السلام الإسرائيلي الملغوم، فالسلام الحقيقي يصنعه الشعب الفلسطيني فهو حارس أرض السلام، وهو يتقن فنَّ الحرب والمقاومة تماماً كما يتقن الحرص على السلم، وإطفاء حرائق الفتن الطائفية والمذهبية، لأن الشعب الفلسطيني هو من شعوب الأرض المباركة، ويرفض الامتهان.

سادساً:  يحذِّر الرئيس وبغضب متفجر بقوله: "إنَّ ما تقوم به إسرائيل من تغيير للوضع القائم التاريخي في القدس، والمس بمكانة المسجد الأقصى على وجه الخصوص، هو لعب بالنار...  لا تحاولوا أن تذهبوا إلى حرب دينية، إنها خطرة علينا وعليكم، صراعنا سياسي وليبقَ سياسياً".

إنَّ الجانب الإسرائيلي الذي تميَّز منذ نشوئه بارتكاب الجرائم، واستباحة المحرمات والمقدسات، وإشعال الحروب، ولا يستطيع الانسجام مع المنظومة الدولية وقوانينها وقواعدها، ولا يمكنه الانضباط للقيم والأنظمة السائدة، ولذلك هو يبحث عن مصالحه، وتطلعاته غير المشروعة، ويدوس على جماجم البشر للوصول إلى أهدافه النابعة من عقيدته الصهيونية الغارقة في عملية توليد الصراعات والنزاعات الطائفية والمذهبية، وهذا ما ينسجم طبعاً مع وجود الدولة اليهودية القومية النظيفة من العنصر العربي، الإسلامي والمسيحي.  ونظرا لخطورة هذا الموضوع فإنَّ الرئيس رفع الصوت عالياً محذراً العالم من السلوك الإسرائيلي التدميري، والذي يستهدف السلم العالمي، والمنظومة الدولية التي تحكم العالم، ونتنياهو يتعمد اللعب بالنار من خلال تذكية الصراع الديني الأشد احتراقاً، وحرقاً، وتدميراً.

 سابعاً: ثم يدخل الرئيس في جوهر الصراع السياسي والوجودي للشعب الفلسطيني انطلاقاً من الواقع الاحتلالي الساعي إلى نسف القرارات الدولية التي تنصف الشعب الفلسطيني من حيث تأييد إقامة دولته المستقلة على حدود العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي يسعى ليلاً ونهاراً لشطب هذه الحدود بين الدولتين، أي شطب القرار الدولي بإقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، فإنَّ الأمور ستذهب باتجاه "تعميق وترسيخ مبدأ الدولة الواحدة بنظامين (ابرتهايد) من خلال فرض الأمر الواقع الاحتلالي، وهو ما يرفضه شعبنا والمجتمع الدولي، وسيكون مصيره الفشل، فلن يكون أمامكم وأمامنا إلاَّ النضال والمطالبة بحقوق كاملة لجميع سكان فلسطين التاريخية"، وبعد تحديد معالم المخطط الإسرائيلي ومخاطره، والإصرار على نسف قرارات الشرعية الدولية، فإن الرئيس ومن منطلق الثقة بالنفس، وأيضاً من باب إدانة الصمت الدولي على التمرد الإسرائيلي ضد قرارات الأمم المتحدة، فإنه يحذِّر بصيغة التهديد المبطن لأن الكيان الإسرائيلي سيجُّر المنطقة بكاملها إلى صراع أبدي في غياب خيار حل الدولتين المرفوض إسرائيلياً، وسبب الرفض هو أن الكيان الإسرائيلي يمتنع عن تحديد حدوده السياسية حسب قرارات الشرعية الدولية، لأنه يعتبر الاراضي الفلسطينية بكاملها أرضاً إسرائيلية، ولا مكان فيها للدولة الفلسطينية. لا شك أنَّ هذا المفهوم الإسرائيلي والصمت عليه سيقود إلى تدمير عملية السلام بكاملها.

ثامناً: إنَّ الواقعية التي اتَّسم بها الخطاب دفعت بجردة الحساب التي قدَّمها الرئيس أن تستكمل كافة حلقاتها، وعلى كل الأصعدة، طالما أن المجتمع الدولي اختار الصمت على الجرائم الإسرائيلية، وطالب الرئيس مَن أجرموا بحق شعبنا عمداً، وسببوا هذه المأساة المتواصلة منذ العام 1948 من خلال الأفخاخ والألغام التي استهدفت الوجود التاريخي الفلسطيني، وخاصة وعد بلفور المشؤوم الذي أصدرته بريطانيا في العام 1917، وهنا يقول:  "عندما أصدرت وعد بلفور عام 1917 الذي يمنح اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين، رغم أنَّ فلسطين كانت عامرة بأهلها الفلسطينيين، وكانت تعتبر من اكثر البلاد تقدماً وازدهاراً، فلم تكن بحاجة لكي تُستعمر، أو توضع تحت انتداب دولة عظمى، لكنَّ الحكومة البريطانية لم تحرِّك حتى الآن ساكنا إزاء مطالبتنا لها بتصحيح خطئها التاريخي بحق شعبنا بالاعتذار للشعب الفلسطيني، وبالاعتراف بدولة فلسطين".

ويضيف الرئيس أبو مازن ساخراً وغاضباً من الإصرار البريطاني العضو في مجلس الأمن على الأسوأ قانونياً، وسياسياً، وأخلاقياً:  "والأسوأ من ذلك أنهم يريدون في نوفمبر (2-11-2017) أن يحتفلوا لمناسبة مئة سنة على جريمتهم هذه بحقنا".

إنَّهم يريدون كدولةٍ الاحتفالَ بنجاحهم في إيجاد كيان صهيوني دموي على أرض الشعب الفلسطيني، وارتكاب المجازر بحق شعبنا وما زالوا، والإصرار على شطب الوجود السياسي لدولة فلسطين، ووضع شعبنا في مأزق وجودي، حيث أنه الوحيد الذي ما زال تحت الاحتلال في العالم.  فهل فهمت الأمم المتحدة، وخاصة بريطانيا جوهر رسالة الرئيس أبو مازن التي تقطُر ألماً وغضباً وإصراراً.

 تاسعاً:  إنَّ الواقع الدولي بهيكلياته المتعددة، وأنظمته المختلفة والذي يتربَّع اليوم على مستقبل الشعوب، وآلامها، وصراعاتها، ومعاناتها، والذي بات متحيِّزاً وجلَّاداً للشعوب الفقيرة، مطلوبٌ منه اليوم في إطار تقديم جردة الحساب الفلسطينية كاستحقاق وطني ينطلق من عظمة الشهداء، وصلابة الأسرى، ومسيرة شعب الجبارين، مطلوب من المجتمع الدولي أن يجيب عن الأسئلة المفعمة بالجرأة، والتحدي، والإصرار:

"أُطالب جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي اعترفت بدولة إسرائيل أن تعلن أن اعترافها تم على أساس حدود العام 1967، وذلك تأكيداً على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ... واسمحوا لي أن أسألكم، أين هي حدود دولة إسرائيل التي اعترفتم وتعترفون بها؟

كيف يمكن الاعتراف بدولة ليس لها حدود، والقانون الدولي يقول إنَّ لكل دولة حدوداً؟"

إنَّها قمّة التحدي المنطلقة من جوهر الواقع، إنَّها أسئلة صادمة، ومركَّزة، وذات مضمون جوهري، ولا تشوبها شائبة، ولا تترك الفرصة لأحدٍ بالتهرُّب، أو إلقاء التهمة على الغير. إنَّها المأساة بل المهزلة أن يتحول هذا الكيان الصهيوني بفضل شريعة الغاب، والتآمر على مصير الشعب الفلسطيني، ومستقبله السياسي، إلى دولة ليس لها حدود بعكس كافة دول العالم، هي دولة صهيونية عنصرية متمردة على كافة القرارات الدولية.  وطموحاتها المكشوفة هي السيطرة على الأراضي الفلسطينية بكاملها، أما الشعب الفلسطيني في الحسابات الإسرائيلية فبإمكانه أن يعيش مؤقتاً في غيتوات مغلقة من دون أية سيادة، أو حقوق بانتظار المزيد من حلقات التآمر، عليه لتذويب شخصيته السياسية، ووجوده الوطني.

عاشراً: ولا ينسى الرئيس أن يحمِّل الدولَ كافةً مسؤوليةَ إنهاء كل أشكال التعامل المباشر وغير المباشر مع منظومة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي غير القانونية في أرض دولة فلسطين.

فالدعوة صريحة وجادة على صفيح ساخن، ولا مجاملة في هذا المجال، فالاستيطان التهم القدسَ من داخلها، وحولها، وتحتها، وأصبحت الكتل الاستيطانية وامتداداتها، والسرقة اليومية للأراضي الفلسطينية بقوة السلاح والجرافات، وعصابات المستوطنين، وصولاً إلى منطقة الأغوار، والتمدد عنوةً في الأراضي المصنَّفة "أ"، و"ب"، و"ج" من دون أي رادع دولي، أو إقليمي، أو عربي، أو إسلامي، فهناك حالة تسليم من جميع المعنيين بأن من حق إسرائيل أن تستوطن، وأن تهوِّد، وأن تقتلع أصحابَ الأرض، وأن تقلع الأشجار، وأن تهدم البيوت، وحتى المقابر. وأمام هَوْل ومخاطر ما يجري، وما يحصل على أرض فلسطين، فإن الضرورة تستدعي موقفاً جريئاً ومسؤولاً، من قادة المجتمع الدولي حُرَّاس الشرعية الدولية، أن يضعوا على رأس قائمة الأحداث الدولية الطارئة التصدي للاستيطان، والالتزام بإنهاء كل أشكال التعامل المباشر وغير المباشر مع منظومة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي غير القانونية على أرض دولة فلسطين، وعدم ترك شعبنا ومستقبله ضحية للأطماع الصهيونية المدعومة من الولايات المتحدة، مع وجود غطاء دولي من مجلس الأمن.

وفي هذا المجال ذكَّر الرئيس الفلسطيني بضرورة أن يتعاطى المجتمع الدولي مع الشعب الفلسطيني كما تعاطى مع شعب جنوب أفريقيا، ودعمه من أجل هزيمة النظام العنصري هناك ونيل استقلاله.

فلماذا يغمض المجتمع الدولي عينيه عما يجري للشعب الفلسطيني؟!

وهل يفعل ذلك نزولاً عند رغبة وأوامر سيد البيت الأبيض الحليف الاستراتيجي للكيان الإسرائيلي الصهيوني الملطَّخة يداه بالدم الفلسطيني؟!

حادي عشر: إنَّ الرئيس أبو مازن ومن خلال دراسة وتفحُّص واقع الأراضي الفلسطينية، واستمرار المعاناة المتصاعدة، وتراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، وممالأة الاحتلال الإسرائيلي، واعطائه الحق بأن يكون فوق المحاسبة القانونية، انطلاقاً من هذا التوصيف المؤلم، فإن الرئيس لم يقل: أطالب مجلس الأمن، وأنا على ثقة بأنه سيستجيب لطلبنا بقبول دولة فلسطين دولة كاملة العضوية. وإنَّما قال وبشيء من فقدان الأمل بهذا المجتمع الدولي: "إنَّنا نتوقَّع من مجلس الأمن الدولي الموافقة على طلبنا بقبول دولة فلسطين دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة، فكل من يؤيد الحل السياسي على أساس الدولتين عليه أن يعترف بالدولتين وليس بدولة واحدة". وهذا من باب التذكير بأسس المنطق السياسي الدولي. والتذكير أيضاً بمدى الإجحاف والتجني الذي أصاب الشعب الفلسطيني.

ولأنَّ شعبنا الفلسطيني، وقيادته التاريخية لا تعرف اليأسَ ولا الإحباطَ فهي مؤمنة بحتمية الانتصار، فإن الرئيس أبو مازن يخاطب شعبه بكل ثقة، ويكبر فيه إصراره على النضال ضد الاحتلال "سلمياً" من أجل حريته واستقلاله وحفظ كرامته الوطنية والإنسانية: "تحية لأبناء شعبنا في القدس الذين سطرَّوا أروع صور المقاومة الشعبية السلمية أمام ممارسات الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي... أقول لهؤلاء جميعاً إنَّ الحُرية قادمة لا محالة، وأنَّ الاحتلال إلى زوال".

خلاصةُ القول إنَّ رئيس دولة فلسطين الذي أثبت جدارته في حمل الأمانة، كان موفَّقا إلى أبعد الحدود في رسم لوحة الواقع الدولي، وتحميله مسؤولية التآمر على الوجود السياسي والوطني الفلسطيني، وتقديم الغطاء للاحتلال الإسرائيلي ليبطش بشعبنا، ويصفّي قضيتنا في ظل تواطؤ العديد من الأطراف الدولية، وتراجع الدور العربي والإسلامي، وامتناع مجلس الأمن عن أخذ القرارات الحازمة لوقف العدوان اليومي والمتواصل على شعبنا، وأرضنا، ومقدساتنا.

بالمقابل فإنَّ الثقة كبيرة بالشعب الفلسطيني، وبقدرته على خوض المقاومة الناجحة ضد الاحتلال، بدليل تجربة الأقصى الأخيرة عندما انتفض عشرات الآلاف بل مئات الآلاف بوجه جنود الاحتلال، وفرضوا الحماية الفلسطينية على الأقصى مهما كانت التضحيات والشهداء.

 خطاب الرئيس التاريخي كان خطاب القائد الواثق من نفسه، والمؤمن بانتصار شعبه، والحريص على الوحدة الوطنية بوجه العنصرية الصهيونية.

_______________________________________________________________

[1]: د.محمد غنيمي هلال، "في النقد الادبي الحديث"، ص 327-430.