بقلم بكر أبو بكر

   تناولت الصحف والمواقع الأجنبية والعربية خطاب الرئيس أبومازن في الأمم المتحدة من زوايا مختلفة، فركَّز بعضها على طرحِهِ النّضال ضدَّ نظام "الفصل العنصري-الابارتهايد" في فلسطين (فرنسا 24)، ومطالبة الرئيس بالتخلُّص منه، وركَّزت عناوين أجنبية على مطالبته بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال فترة زمنية محددة (بي بي سي)، بينما عنوان الـ"سي ان ان" الأمريكية حول الخطاب كان: "محمود عباس: إن لم تُنفَّذ توصيات مجلس الأمن.. إلى أين نذهب؟".

 كما ركَّزت عناوين أخرى على المرارة التي ظهرت في خطاب الأخ الرئيس، بينما لم تجِد "حماس" ما تنتقدُهُ جديًّا فقالت أنه يتضمَّن استجداءً! مشيرةً إلى أنه أعلن الإقرار بفشل التسوية.

الرد الإسرائيلي والعالم

  وعليه كان رد فعل ممثِّل "إسرائيل" بالأمم المتحدة أن اتهم نقاط الخطاب أنها ملأى بالأكاذيب التي لم يستطع أن يُفنِّد واحدة منها! وجاء في بيان أصدره مكتب "نتنياهو" أنَّ: "كلمة الرئيس محمود عبّاس مخادعة، وتُشجِّع على التحريض والتدمير في الشرق الأوسط"، وأضاف البيان متجاهلا ًكلّ النقاط تقريبًا ومتجاهلاً الدولة الفلسطينية أو فكرة المساواة ضمن دولة واحدة، ليقول: "بعكس الفلسطينيين، فإنَّ "إسرائيل" تحافظ بشكل قوي على الوضع الراهن في جبل الهيكل (الاسم اليهودي للحرم الشريف/المسجد الأقصى)، كما أنَّها ملتزمة بمواصلة ذلك، طبقًا لجميع التفاهمات بيننا وبين الأردنيين والأوقاف".

وفي الإطار فإنَّ وكالة الانباء الاردنية أشارت للفكرة- فكرة الدولة الواحدة- بالخطاب حيث ذكرت التالي: "طالب الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتراف الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين، مشيرًا إلى أنَّ 138 دولة تعترف بها حاليًّا. وقال عبّاس إنَّه من غير العدل أن تعترف الدول بدولة "إسرائيل" من دون الاعتراف بدولة فلسطين متسائلاً: "ما هي حدود دولة "إسرائيل" التي اعترفتم بها".

وأضافت الوكالة القول: "كما طالب المجتمع الدولي بإنهاء "نظام الفصل العنصري" الذي تفرضه "إسرائيل" على الفلسطينيين مُحذِّرا بالقول: "إذا تمَّ تدمير خيار الدولتين، وتعميق وترسيخ مبدأ الدولة الواحدة بنظامين "أبرتهايد" من خلال فرض الأمر الواقع الاحتلالي، وهو ما يرفضه شعبنا والمجتمع الدولي، وسيكون مصيره الفشل، فلن يكون أمامكم وأمامنا إلا النّضال والمطالبة بحقوق كاملة لجميع سكان فلسطين التاريخية".

في عناوين أخرى وإشارات هامّة، وُصِف الخطاب بأنَّه رسالة تذكير للعالم بمعاناة الشعب الفلسطيني البطل، أو إشارات للمطالبة الصلبة بإنهاء الاحتلال والدور الأمريكي المطلوب، وهو ما أشار له الرئيس بلقائه مع الرئيس الأمريكي أيضا، كما وُصِفَ الخطاب بأنَّه خطاب الواثق أو المفارق كما قال الكاتب منذر ارشيد مادحًا.

فكرة الدولة الواحدة بشكل مُتسلسِل

  إن أخذنا هذه القصاصات من التعليقات والعناوين نرى أنَّ المواقع الأجنبية المذكورة لم تولِ كثيرَ الأهمية لطرح الرئيس الجريء بالخيار الثاني، أي "المطالبة بحقوق كاملة لجميع سكان فلسطين التاريخية"، باستثناء بعض الأقلام والوكالات العربية، وحتى في هذا الإطار فلقد تمَّ النظر للعبارة/الهدف وهي مجال حديثنا هنا من زوايا إيجابية في الغالب، وسلبية من بعض النقاد فكيف ذلك؟

تسلسل الرئيس أبومازن بالعرض لفكرته (القنبلة) عبر التمهيد والتأهيل المتدرّج للمستمع لما يريد إعلانه بصراحة تعبّر عن الألم والمرارة الشديدة في ذات الوقت ما لا يخرجه عن الإيمان المطلق بضرورة النضال واستمراريتنا ، وأحقيتنا ببلادنا فلسطين، وفي رسالة للعالم يعبّر فيها عن أمله الأخير واضعًا القضية في أعناق العالم الحر، ولننظر لتتابع ما قاله.

قال الأخ أبومازن : "رغم جهودنا ومساعينا الحثيثة والصادقة من أجل إنجاح عملية السلام لا تزال "إسرائيل" مستمرة في التنكر لالتزاماتها تجاه عملية السلام وتصر على افشالها، باستمرارها في بناء المستعمرات وتنكرها لحل الدولتين، الأمر الذي أصبح يشُكل خطراً حقيقياً على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ما يفرض علينا القيام بمراجعة استراتيجية شاملة لهذه العملية."

فربط بين المراجعة وهذا هام جدًا، وإعادة بناء الاستراتيجية الجديدة بالتعنُّت الإسرائيلي ورفضه العملي بل واللفظي لحل الدولتين.

 ثُمّ تقدَّم خطوة أوسع حين حذَّر وهدّد ووضع العالم أمام مسؤولياته، كيف لا وهو، أي العالم الغربي، وعلى رأسه بريطانيا مَن أوجد دولة "إسرائيل"، فقال: "إنَّ حل الدولتين اليوم في خطر، فلا يمكننا كفلسطينيين أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الخطر الداهم الذي يستهدف وجودنا الوطني والسياسي والمادي على أرضنا، ويتهدّد السلام والأمن في منطقتنا والعالم، وقد نجد أنفسنا مضطرين إلى اتخاذ خطوات، أو البحث في حلول بديلة لكي نحافظ على وجودنا الوطني".

ومع هذا التحذير في تدرج سياق الخطاب بدأ يطرح الخيارات الأخرى من اللجوء للقانون الدولي والاعتراف الكامل بدولة فلسطين، وصولاً للقول: "ولكن إذا تمَّ تدمير خيار الدولتين، وتعميق وترسيخ مبدأ الدولة الواحدة بنظامين "أبرتهايد" من خلال فرض الأمر الواقع الاحتلالي، وهو ما يرفضه شعبنا والمجتمع الدولي، وسيكون مصيره الفشل، فلن يكون أمامكم وأمامنا إلّا النضال والمطالبة بحقوق كاملة لجميع سكان فلسطين التاريخية."

والمفتاح للخطاب الهام برأيي هو هذه الفقرة المتبلورة في ذهن الرئيس، والتي جاءت في منتصف الخطاب، ثم عاد وكرّرها بقوة في ختام الخطاب، حيث قال: "أقول لهؤلاء جميعاً إن الحرية قادمة لا محالة، وإن الاحتلال إلى زوال، فإمّا الاستقلال لدولة فلسطين لتعيش بأمن وسلام إلى جانب دولة "إسرائيل" على حدود العام 1967، وإمّا الحقوق الكاملة التي تضمن المساواة للجميع على أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر".

نقاط الرئيس العشر، والحقوق المتساوية

  من الممكن النظر لخطاب الرئيس في إطار برنامجه الذي طالب العالم بتبنيه بنقاطه العشر بالخاتمة المتضمن: إنهاء الاحتلال، وقف الاستيطان، توفير الحماية الدولية، الإقرار بحدود العام 1967، الاعتراف بـ"إسرائيل" مرهون بالحدود، التعامل مع الاستيطان كأبارتهايد، اعتراف العالم بدولتنا، فلسطين دولة كاملة العضوية بمجلس الأمن، التمسك بـ"الانروا" والدعم، التزامنا بحقوق الإنسان والاتفاقيات.

إنَّ فقرة "الحقوق الكاملة التي تضمن المساواة للجميع على أرض فلسطين التاريخية"، وهي قنبلة الخطاب الحقيقية التي تُمثِّل تغيّرا متدرجًا قد تصبح استراتيجية ترتبط بحل السلطة التي لوَّح بها الرئيس في الخطاب، وهي استراتيجية قد يتم اعتمادها من خلال المجلس الوطني الفلسطيني، وقد لا تجد لها حظًّا من الحياة، لكنّها كخيار -رغم ما يبدو من استحالته حاليًّا- ترتسم بالخطاب كعلامة فارقة حقيقية، ما بين النظر لها كنضال طويل قادم او كيأس وما أرى الرئيس يائسًا أبدًا.

النظري والعملي بالفكرة

  إنَّ الخلاف بين الطرح النظري والطرح العملي هو ذات الخلاف بين المفكّر/المنظّر والسياسي، أو بين المؤرّخ والسياسي، فحين ينحو السياسي باتجاه أن يكون مُنظِّرًا أومؤرخًا يبتعد عن العمق السياسي الواقعي، فتتشابك المفاهيم التعبوية طويلة المدى مع الواقعية السياسية التي تنظر للمستجدات والمتغيرات ولعوامل القوى والتحالفات والقدرات، ولا أظن الرئيس أبو مازن قد قفز فجأة لمقعد المؤرخ أو المنظّر، فهو مازال سياسيًّا محنّكًا كما عهدناه، وإن كان بهذه الفقرة وتسلسل الخطاب، والتأهيل النفسي للمستمع يتجه شيئًا فشيئًا لرسم استراتيجية جديدة من خلال بالون اختبار عالمي.

عندما توصّلت الثورة الفلسطينية إلى فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967 كما ورد في الإشارة من إعلان الاستقلال العام 1988، وفي مسيرة سياسية ابتدأت من العام 1973 لم يكن القرار سهلاً أبدًا، وإنَّما كانت التوازنات ومفاعيل القوة الحية والحوارات الداخلية والإقليمية والعالمية التي صنعت "إسرائيل" لتبقى تصنع فيه الكثير إلى أن أصبح يُمثِّل من الأهداف الفلسطينية "الثوابت" التي تبنّتها حتى حركة "حماس" بوضوح بالانقلاب في فكرها السياسي مع وثيقتها عام 2017، بمعنى أنَّ نضال أكثر من 40 عامًا، والذي جعل كل القوى الحية الفلسطينية تتبنى البرنامج، لا يمكن أن تقفز فجأة من هذا المركب وكأنه قد شارف على الهلاك إلى باخرة ضخمة لا نستطيع أن نصلها لا بالقوارب ولا بالسباحة، وجل ما نستطيعه هو أن نصرخ على ربان الباخرة من البعيد.

إنَّ فكرة الدولة الواحدة أو المساواة بالحقوق السياسية والقومية وهو المقصد (وليس الحقوق المدنية والاجتماعية فقط) ليست أمرًا سهلاً اليوم في ظل حكومة احتلالية استعمارية عنصرية أسهب الرئيس من الإشارة لها بوضوح، وهي التي سنَّت عشرات القوانين العنصرية ضد الفلسطينيين بالداخل، فهل لنا أن نلقي هدفنا بالدولة الفلسطينية جانبًا، ونركب باخرة الدولة الواحدة، ونحن قد نحتاج من السنين ما لا يعلمه إلّا الله من النضال الجديد لتحقيق هذا الهدف البعيد.

مع ولكن!

  إنَّنا نُقر ونُؤيد الفكرة من الناحية النظرية، ففلسطين كلها لنا، وهي الفكرة التي تلقى هوى في نفوس الفلسطينيين وأحرار الأمّة، فالإشارات التاريخية العقدية لدى الرئيس حول "فلسطين من البحر إلى النهر"، تجعل من هذا الأمل بالدولة الواحدة يصعد في مقابل استحالة التحقق بهذه الطريقة.

إنَّ النضال الفلسطيني البرامجي الذي رسخته المؤسسات الفلسطينية والعربية والدولية حيث الاعتراف من عشرات الدول بنا لا يمكنه أن يتحوّل فجأة من هدف إلى آخر، وبلا مقدّمات طويلة ترصد المتغيرات وعوامل القوة التي باتت تنفر من أيدينا، أفلا يكون الرئيس يسعى لتحقيق الدولة الفلسطينية على حدود 1967 المعترف بها عالميًّا بعد رفع علم الاستقلال كبداية وأولوية للنظر في شكل الدولة في فلسطين التاريخية التي لم يتخلَ عنها كما كان واضحًا؟

لكن ألا يستطيع القوي و(القوي عايب) كما يقول مثلنا الشعبي -والسياسة تحكمها المصالح السياسية الاقتصادية والجغرافية- ألا يستطيع هذا القوي أن يرتّب الأولويات بمقدار ما يمتلك من قوة وتحالفات وعلاقات تجعل من أي فكرة أو دعوة تندحر وتقع عى رأسها، أو تطول لما لا نهاية، كما حاول "شامير" أن يدير المفاوضات في مدريد إلى الأبد، فعاجله "شارون" بالتنفيذ، وسار على دربه "نتنياهو" ويمينه المتطرف المخادع.

وبمعنى واضح ألا يستطيع الإسرائيلي الذي يرفض حل الدولتين، وقطعًا يرفض حلَّ الدولة الواحدة، ألا يستطيع هذا الإسرائيلي حتى لو قَبِل الفكرة، فكرة الدولة الواحدة، نظريًّا أن يجعل من المستعمرات في جسدنا بالضفة أبديّة ضمن منطق أنهم -أي المستعمرين- في جغرافيا الدولة الواحدة، فيأخذ ما يريد ويماطل إلى الأبد بتحقيق الصيغة الحقيقية المقصودة للمشروع؟

إنَّ العالم قد جعل من قضية فلسطين خلف ظهره، والأُمّة بين تفتيت وتجزيء وطائفية وحزن عارم، أو تلَهٍّ ولجوء نحو الاستهلاكية في إطار العولمة الداهمة، وهي أمُّة تستسهل اليوم الابتعاد عن القضايا المصيرية لتقدمها وعزتها فتقوم بربط قنوات مع الإسرائيلي قفزًا على المبادرة العربية، ونحن إزاء هذا الحال نطالب بكل فلسطين؟ أظن أنَّ في ذلك تفاؤلاً كبيرًا ويحتاج لنضال طويل جدًا، لكنه قد يقود لتقويض مكاسب حقّقناها من دون تحقيق أي هدف.