ما برح الخلاف قائماً بين مَن رأى في الذين اعدمهم جمال باشا في عامي 1915 و 1916 في دمشق وبيروت شهداء، وبين من اعتقد أن هؤلاء مجرد متعاملين مع الاستعمار الفرنسي ضد الدولة العثمانية. وهذا الخلاف الذي خبا فترة، ثم عاد إلى الظهور مجدداً في سياق صعود أفكار الاسلام السياسي يحسمه الكتاب الصادر حديثاً للكاتب والباحث اللبناني يوسف خازم بعنوان "عبد الكريم الخليل مشعل العرب الأول" (بيروت" دار الفارابي، 2017). ويرى الكاتب أن أولئك الذين أُعدموا كانوا، في معظمهم، مناضلين في سبيل حرية العرب وفي سبيل وحدتهم. والمعروف أن من بين شهداء العامين 1915 و 1916 خمسة فلسطينيين هم: سليم الأحمد عبد الهادي (عرابة نابلس) وعلي النشاشيبي (القدس) ومحمد الشنطي (يافا) والشيخ أحمد عارف الحسيني وولده (غزة). ومهما بلغ الاختلاف في شأن الموقف من الشهداء، إلا أن الجميع يكاد يجمع على أن عبد الكريم الخليل كان عروبياً حراً مستقلاً، ولم ينضوِ في أي إطار سياسي تابع للاستعمار الغربي أَكان الاطار فرنسياً أم بريطانياً أم ايطالياً.

مَن هو؟
يروي هذا الكتاب سيرة عبد الكريم الخليل منذ مولده في برج البراجنة في عام 1884، حتى اعدامه في بيروت عام 1915. ويوسف خازم في هذا الكتاب ليس صحافياً كما عرفناه في الاعلام العربي، وليس خبيراً في التوثيق كما هو اختصاصه الأكاديمي، بل هو فوق ذلك كله باحث في التاريخ. وقد أنجدته خبراته التوثيقية وصلته بالشهيد عبد الكريم الخليل، في أن يأتي هذا الكتاب على ما هو عليه من دقة وموضوعية. فالشهيد هو عم والدة الكاتب ،ولذلك انفرد يوسف حازم  بالحصول على روايات شفهية مهمة كانت تتردد بين أبناء العائلة. وقد جال المؤلف بين الروايات الشفهية  وفتش عن الأوراق الشخصية المتناثرة هنا وهناك، وعاد إلى المراجع الكثيرة عن تلك الحقبة، لتأتي خلاصة ذلك التجوال في صورة كتاب مهم من جميع جوانبه: الدقة في المعلومات، والإحاطة في البحث، والتوسع في الهوامش الإيضاحية، علاوة على اللغة الروائية المحببة في طريقة سرده لسيرة عبد الكريم الخليل.
يكشف الكتاب معلومات جديدة عن دور عبد الكريم الخليل في النهضة العربية وتأسيسه أول جمعية عربية سرية في اسطمبول سنة 1905، وعن التجسس الصهيوني ومحاولات اختراق الصهيونيين لجميعة المنتدى العربي التي أسسها الشهيد سنة 1910. وفي الكتاب مراسلات للمؤرخ عجاج نويهض تتعلق بالشهيد، وهي تنشر أول مرة.

المحطة الأخيرة
كانت غاية عبد الكريم الخليل تأسيس دولة عربية منفصلة عن الدولة العثمانية، وحاول إشعال ثورة في بلاد الشام ضد الأتراك في سنة 1915، خصوصاً في جبل عامل وفلسطين. وانهمرت الوشايات ضده من شخصيات متعددة الغرضيات والمصالح أمثال كامل الأسعد (الزعيم الأبرز في جبل عامل) والصهيوني ألتر اسحق ليفين الذي كان يوقع كتاباته باسم أساف هاليفي. ويروي الكتاب حكاية اعتقال عبد الكريم الخليل وسوقه إلى محكمة الديوان العرفي في بلدة عاليه اللبنانية، ومحاكمته ثم إعدامه. ويوثق المؤلف شهادات عدد من الأشخاص الذين إما التقوه في السجن أو شاهدوا عملية إعدامه، وها هو يوسف خازم يعيد إحياء سيرة رجل صنع خلال 31 عاماً فقط ما عجز عنه كثيرون من رجال السياسة.