إلى محمود درويش
بقلم: محمد سرور

لأنَّك الومضَ في أحداقِ المَنافي... صُرتَ القيثارَ الذي لحَّنَ نبضَ جوارحِنا.
لجسدكَ الناحلِ أزهَرَ قِندولُ الجليلِ، فكم غارَ الريحانُ من خطاكَ... من عبير أنفاسِك.
 مَنْ يحكي للحالمينَ عن وحشةِ الدربِ، عن شظايا الذاكرةِ في البيوتِ العتيقةِ... منْ يُحاكي عيونَ الصُّورِ اليتيمة... ومن يَمْسحُ الغُبارَ عن المَرايا الحزينة؟
لا تذهبْ...
من يؤنسُ أرصفةَ المدائنِ ، يُروّضُ التسكُّعَ بملامح المنفييّن،
بلا شيء تسكَّعتَ وحيدًا، مع لغةٍ من قمح ٍ... وهدايا قُبَلٍ للوجوهِ الخائفة.
 مثلما أطعَمْتَ الغُربَةَ ابتسامتَكَ وقطرةَ دمعٍ نقيَّةً،  سرِّحْ للقصيدةِ ضفائِرَ الاُمسياتِ...
لا تذهبْ
فمَنْ يُرمِّمُ حُطامَ أجسادِنا، من يُعيدُ أسماءَنا... نحنُ الذينَ في مَهَبِّ الغيابِ ، من يُنقّي حناجرَنا من كلامِنا الهَباء؟.
لا تذهبْ
الأغنياتُ تائِهةٌ، والمخيَّمُ بِلا نايٍ، بِلا نَغَمٍ.
... لمنْ الأُغنياتُ الآن؟
 العروسُ مَسبيَّةٌ... والمَهـرُ مَساكِبُ أفئِدةٍ والتفاتاتُ طرائِد.
لمنِ الأغنياتُ، وأيُّ المناديلِ تخبِّئُها؟
ألسنا قبائلَ تغزو قبائلَ... باسم الدين نُقتلُ؟ تأسفُ الأُغنياتُ لدمٍ يُراقُ منْ جيدِ غزالة.
لا تذهبْ، واليمامةُ مكسورةُ الجَنَاح...
 لا تُعلنْ موتَ الصباح.
كأنَّكَ  تتركُ لنا القصيدَةَ مِقْصَلةً، كعادتِكَ في الدهشَةِ، تطعنُنا بباقةِ شعرٍ... بواحدةٍ من حالاتِ موتِكَ تطعنُنا، ثمَّ تنتشلُنا من الموتِ لِنبكيك... أليسَ "ثمَّةَ ما يستحقُّ الحياة"؟. هل ماتتْ أحلامُنا بساطورٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله؟ ألم يكفِنا لصوصُ الغفلةِ... وسُباةُ الأرضِ والديار؟
أما زالَ فيكَ بقيَّة وَعدٍ؟
لا تُسرجْ للفراغِ القصيدة
نبضُكَ ما زال فينا يُهجِّي لنا دروبَ البَهاء؟
لا تذهبْ
العندليبُ أنت،
كالحياة أنت،
 كمْ أَسكَنتَ الحِصارَ قاماتِ السنابِلْ؟
يا أنيسَ الأسفارِ
كمْ نجمةَ صُبحٍ قطفتْ يداك، كم لِمغيبٍ لوَّحَتْ؟
كمْ شَرَّعَتْ عيناكَ مَدىً، كمْ عاصِفَةٍ أطفأتْ؟
يا جَناحًا في العُلى،
كمْ تنهَّدْتَ وحيداً في الأقاصي الموحشة؟
لا تُسرجْ للغيابِ جَفنيكْ، ففيكَ بقيَّةُ لَحنٍ، بقيَّةُ لغةٍ، فيكَ لنا أغنيةٌ، للوطنِ نبيذُ أنفاسِكَ المُعتَّق.
ليسَ ذا الموتُ، إنَّما تحديقٌ بقاموسِ جراحِنا
ليسَ الموتُ، بَلْ تجدُّدٌ للعِشق- للقلق.
مازالَ قلبُكَ ينتظِرُ عَتَباً شهيَّاً... يتحفَّزُ لِما وراءَ الغَضب، لِصَمتٍ هو أبلغُ القصائِد.
أهو الإحتجاجُ بالغيابِ، أم هو ابتكارٌ لآخِرِ رَوائِعِ الدهشة؟
لا تذهبْ
فالسُّؤالُ في رَيعانِ عُقدتِهِ، والدمعةُ أوسَعُ من ضوءِ شمعتِها
ألستَ حصانَ نفيرِنا، حصانٌ سرجُهُ الحصار، سيفُهُ الشعلةُ، ميدانُهُ
 القهرُ العريق؟
كالوَهلةِ تعبرُنا، إلى احتمالاتِكَ القصوى، إلى شُرفةٍ في سَحابةِ الأريج.
كالجلاَّدِ تقتُلنا، بسوسَنِ خاطِرةٍ غريبةٍ تقتُلُنا، بزهرةِ رُمّانٍ.
تُعلِّقنا على حِبالِ شمسِ الصَّباحِ، على ألوانِ قوسِ القُزَحِ... تُعلِّقُنا.
يا سَليلَ قبائِلِ النَرجس، من خُطاكَ الأمكنةُ طالما اختَلسَتْ صدىً، لكنَّ للمنفيِّ جذورًا في غماماتِ المطر، للمَنفيِّ عيونًا من عَسَسِ الإياب.
فاتحةُ العِشق أنت، خاتمةُ العِشق أنت
لا تذهبْ
فالكلامُ أنت، منْ سِوى صوتِك يمحو زَبَدَ الطوفانِ؟
لا تذهَبْ
إنَّكَ من "زَهرِ اللَّوزِ" أنقى... من "زَهرِ اللَّوزِ أبعَدْ".
ليتَنا لمْ نُقدِّسْ في الإبداعِ حِبرَهُ
ليتَكَ لمْ ُتعلَّمْنا طِباعَ النسور
يا لَعارهِم
"ترَكوا الحِصانَ وحيداً"... ثمَّةّ من اغتالَ مَيدانَهُ والغُبار
قالَ البلاءُ لك: هوذا القَبرُ رايةٌ... مثلُكَ من أطايبِ مائِدَتي.
قُلتَ: " مِترانِ من هذا الترابِ سيكفيانِ... والباقي لزهرٍ فوضويِّ اللَّونِ، يشربُني على مَهلٍ".
لا  تذهَبْ
فأيُّ الأيدي حفُرتْ لكَ المَثوى...
أيُّ الشِّعرِ يَرثيكَ... ومَنْ سِواكَ يكتُبُ إليكَ نَشيدَ الوَداع ؟
ولَئِنْ أكثَرتَ من الوصايا... لئِن مُتَّ كثيرًا، لكنَّ عالَمًا دونَكَ– هذه المرَّة – رَتيبًا ... عَليلا.
أُقسِمُ أنَّكَ تليقُ بنا، بالوزّالِ بالنرجِسِ... بكُلِّ "الزَّهرِ الفوضويِّ"، بكُلِّ "أحمدَ عربيّ"...
أقسِمُ أنَّكَ جُفونُ المَنفيِّ... لونُ عينيهِ...
 وأقسِمُ أنَّكَ ظِلُّ المكانٍ، وقنديلُ السَّمَرِ والحَداء.