ذكرى محمود درويش التاسعة

بقلم: محمد سعيــد

لن أتبع خطاك يا أبي
إلى أين أنت ذاهب
هذا الدّرب لا يشبهني
أنا يوسف يا أبي، كم نهيتني عن ركوب الخيل، والسير وراء المطر.
قل يا أبي لماذا تركتني وحيداً بين اخوة يريدون تحطيم لعبي، وأخذ أغطيتي.
لماذا كنت يا أبي تصنع الأحجار أقماراً، وتضع ورق الشجر على الأرغفة.
لماذا يا أبي كنت ترقد على كوكب المدى، وأنا أرقد على حجر.
هل مازال الطريق بعيداً مع العذاب.
علمتني يا أبي أن الكتابة قاع عميق لا يكادُ جرحها يلتئم حتى تغرز الأقدار سكاكينها فيّ مجدداً.
ها أنت تأخذني بعيداً، لمن نترك البيت؟ وليس لنا سوى الريح يا أبي. هل سيبقى البيت حيّاً أم سيموت يا أبي.
كم من الليالي ستبكي على غيابنا يا أبي.
لماذا قلت لي حين رأيتني أبكي أن أقترب من النهر ربما يحنو عليّ قمر خائف من البراري الكثيرة، كنت تجري يا أبي ولا تأبه بالأقدار، كنت تركضُ وأنا أركض وتقول لي أصمد كما كان جدّك يصمد. هيا اتبعني يا ولدي لا تسأل كثيراً عما وراء الغيب.
نحن يا ولدي أبناء الأزلية، نحن الثرى والضوء والأحلام التي تضيء الظلام أكثر من الشمعة.
لماذا رحلت يا أبي، إني أرى نهاري خفيف الوزن، وورد المزهرية في البيت حزيناً؟ لماذا يا أبي ابتعدت عني وأنا معك؟ أليس بالامكان أن أتبع خطاك في ليل غربتنا؟ وأنت ترحل يا أبي أضعت عباءة عتمتي.
خذني إليك ولا تسرع فخطواتي ما زالت متعثرة. انتظرني يا أبي، ولا تسبق المعنى، عيابك عن البيت يهيل تعب المساء عليّ.
قل يا أبي إلى أين نرحل؟ وظلي يتبع ظلك، إلى أين تأخذني في هذا السراب؟ هل سنموت هنا يا أبي، أم هناك ليلٍ يصير يوماً شيئاً لا نفهم معناه؟! متى نعود يا أبي، تعال حدّثني عن صحبة الدار، والعشق المقدس لفنجان قهوة، أحب يا أبي أن تحدثني عن البحر، وتنهاني عن السفر، ها أنت تشعل البرق في حضن التراب، با له من سفر.
مالت عليّ الشمس، والقمر، والطير، والفراشات. أوصدوا يا أبي باب الكلام، وطردوني من قوس قزح.
يا أبي أنا خجول ماذا أقول للبلاد بعد أن نضيع في السراب.
ها أنا أتبع خطاك إلى أين تأخذني؟ والصخر يكسره السواد.
أنت الذي خبأتني من الرصاص، ولم تخف. هل تعرف الطريق إلى البيت يا أبي؟ لا تبح لي إن كنت تعرف سرّ الغياب.
إروِ لي يا أبي كيف مرّ الوقتُ بين الريح وعينيّ. ذات يوم قلت لي أنك ستأخذني إلى ضواحي الأبديّة، ولم تأبه للحياة ولن تبخل الروح علينا بأكثر من حاجتنا إلى النزوح.
تعال ننصب خيمتنا فوق جبال قليلة الحر والبرد، علمتني يا أبي حكمة الصمت، وحكمة الكلام، ها أنا بعد غربتين وأكثر أحمل زادي من العواصف، وأحمل ما استطعت من صورتي، وأعود مثلما يعود الطير والفراشات، أجعل من الشعر كلّ شيء حيّ، في أرض ننام فيها الآن وأبعد.
هل نحن أحياء قل لي يا أبي، لا تكترث، هل نحن من هذا الزمن؟ أرماديون نحن يا أبي مضغنا شوك العبور إلى الهجرة الأولى، هنا حيث تُركنا لمشاريع الخلود ولم يبحث عنّا أحد؟ أنحن أبناء النرجس وهبات الهواء الساخن؟ ضعني يا أبي تحت ركامك ولا تجفل من مكانك.