خاص مجلة "القدس" العدد 340 اب 2017
تحقيق: غادة أسعد

12 عامًا مرَّت على مجزرة حافلة شفاعمرو، ولا يزال جرحها نازفًا في قلوب مَن فقدوا جرّاءها الأحبّة. أربعة شهداء راحوا ضحية هذه المجزرة الأليمة، هُم ميشال بحوث، ونادر حايك، والشقيقتان هزار ودنيا تركي. أمَّا من نجوا من الموت المحقَّق، كالبطلة بدرية شعبان، فعاشوا ليرووا تفاصيل هذه الجريمة المرّوعة، والتي خلّفت في ذاكرتهم ندوبًا غائرة.


هزار ودينا توأمان بفارق عام وثلاثة أشهر!
لا تُمحَى من ذاكرة عائلة الشهيدتين هزار ودينا تركي الذكريات التي ارتبطتا بهما. فتروي العائلة لمجلّة "القدس" كيف كانت الشقيقتان تُشيعان بمحبَّتهما وشخصيَّتيهما المميَّزتَين مشاعر الأُلفة والمحبّة في العائلة. ورغم ولادة هزار قبل دينا بعامٍ وثلاثة أشهر، إلّا أنَّهما كانتا أشبه بالتوأم، إذ كانتا شديدتَي الالتصاق ببعضهما، تتشاركان في كل شيء، وكان أقرب مشوارٍ يجمع بينهما، سواء أكان للسير، أو للعمل، أو للتعلُم. وحين كانت تغيب إحداهما، كانت الأخرى تنتظرها على أحر من الجمر، فلا يغمض لها جفن قبل وصول الأخرى. ولقربهما وتشابُهِهما الشديدين، كانت تحدث معهما العديد من المصادفات، كأن تشتريا أو ترتديا ملابس متشابهة في اللون والتفاصيل من دون أي تنسيقٍ مُسبق.
ورغم رحيلهما إلّا أنَّ العائلة حافظت على وجودهما وذكراهما في أسماء الأحفاد، والصور المعلّقة في البيت، والغُرفة التي لا يدخلها إلّا الأعزاء من البيت وخارجه، وفيها كلُّ شيء خاص بهزار ودينا، من ألعاب، وكتابات، وخربشات على الجدران، وأشكالٍ تُزين وتضيء سقف الغرفة.
عن ليلة استشهاد هزار ودينا
في الرابع من آب العام 2005، كانت حافلة رُكّابٍ تابعة لشركة "إيجد" في طريقها من حيفا إلى مدينة شفاعمرو. لم يعر أيٌ من الركاب أهميّة للشخص الذي كان يجلس على المقعد الخلفي، ظلّ الأمر طبيعيًا، حتى نهض الجندي الإسرائيلي الإرهابي نتان زادة، مُتوجِّهًا إلى مقعد السائق، فأطلق عليه الرصاص هو وصديقه الذي يجلس قبالته، ليشرعَ بعدها بإطلاق النار على سائر الركّاب، ما أدّى لاستشهاد 4 شهداء، وبينهما الشقيقتان، وإصابة 15 شخصاً آخرين، قبل نفاد ذخيرته، وتمكُّن بعض الركاب وبينهم بديعة شعبان من إحكام السيطرة على المجرم وبندقيته، ثُمَّ الإجهاز عليه.
أمَّا بالنسبة للعائلة، فقد كان المشهد مختلفًا. تُحدِّثني نسرين شقيقة هزار ودينا عن تفاصيل يوم الحادثة، فتقول: "كنتُ خارج المنزل، وما إن وصلت إلى البيت حتى انهالت اتصالاتٌ كثيفة  على هاتفي الشخصي، وكانوا يسألونني عن صِلة قرابتي بدينا وهزار، وإن كانتا قد عادتا للمنزل، سألتهم عن سبب السؤال، فأجابوا بأنَّهم سمعوا عن حادثٍ في حافلة قادمة من حيفا، في تلك الساعة لم أستوعب الأمر.كيف عرف الناس أنَّ حادثًا قد وقع والحافلة لم تصل بعد إلى شفاعمرو؟! وكيف عرفوا أنّ دينا وهزار في الحافلة؟! مَن يعرف برنامجهما؟! ولاحقًا اتصلَت بنا صديقة دينا، وقالت: كنتُ أتحدث مع دينا، وبدأ إطلاق نار داخل الحافلة، وقالت دينا في تلك اللحظة: (طخ علينا). وعندها تأكدت أنّ الأمر حقيقي، وأنّ شيئًا خطيرًا قد أصاب دينا وهزار، وتوالت الاتصالات من دون أن يتَّضح لي شيء. وأذكر أنّ عمّي كان ينوي الذهاب إلى عرس، فقلتُ له، عمّي انتظر، لا تذهب، إذ يقال أنّ الحافلة التي كانت تستقلها هزار ودينا قد وقع فيها حادث وتعارك، وما إن أدرنا التلفاز حتى طالعنا خبرٌ بأنَّ جنديًا من الدروز أطلق النار داخل حافلةٍ للركاب، وعندما توجَّهنا إلى الإسعاف الأولي في المدينة، قالوا أنّ جثمانَي هزار ودينا في مستشفى رمبام، وحين سألنا هناك، قال أحدهم وهو يتطاير شررًا (اذهبوا إلى أبو كبير)، حيثُ توجد المشرحة".
بديعة شعبان: الشاهدة الحيّة على المجزرة!
لا تزال مشاهد الجريمة الأليمة عالقةً في ذهن بديعة شعبان حتى اليوم، وكأنّها تتراءى أمام ناظريها، وهي تروي تفاصيل ذلك اليوم. فطالبة كلية الهندسة في "التخنيون" لم تكن تتخيَّل في أسوأ كوابيسها أن تلتقي الموت وجهًا لوجه، في صورة بندقية "M 16" يحملها جندي تجرّد من أي شعور إنساني. وفي الذكرى الثانية عشرة على المجزرة، دوّنت بديعة على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، كلَّ ما جال في خاطرها، فكتبت: "يسألني الفيسبوك كلَّ صباح "بماذا تفكر؟" ودائمًا اعتبر سؤاله مُتطفّلاً ولا إجابة له عندي... اليوم على وجه التحديد، وبعد أن رأيت سؤاله ذاته أجبتُهُ بدهشة، ألا تعلم بماذا أفكر؟! مستحيل ألّا تعلم؟!
ألم يخبرك صديقك "جوجل" بماذا أفكر؟! ألم يعرض عليك زميلك يوتيوب أفلام الرعب والدماء المبعثرة التي لطّخت بلدي في هكذا يوم؟ ألم تعلم حكايتنا؟؟ إذًا سأرويها لك، لكن اعذرني إن خنقتني دمعة بين كلماتي. كان ياما كان، وقبل 12 عاماً من هذا الزمن، وبالضبط في هذا المكان، أنْ ركبتُ حافلة عادية في الخامسة وخمس دقائق. صعد إلى الحافلة أهل بلدي، صعدوا جميعاً مُتعبين مُثقَلين، صعد سائق باص جائع، قد ابتلعت الدنيا وجبة غدائه وطردته من أبوابها جائعاً، صعدت أختان جميلتان تتهامسان بهدوء، وجلستا على ذات الكرسي لأنَّ حديثهما أبى أن ينقطع، صعدَ رجلٌ بسيط بسّام الوجه يداعب الجميع بكلمات لطيفة... صعدتُ أنا على قيد الحياة، ولم أعلم أنّ الموت المحتَّم ينتظرني.
وبعد أن صعدنا جميعًا، صعدَ جندي مجرم بحذاء أسود، صعد بشعرٍ ترك بعضه يتطاير ليفتح به أبواب جهنم، صعد ونظر إلينا جميعاً... لم يُفرِّق بيننا، ولم يُهمّه أيُّنا أطول أو أقصر، وما ديانة كلٍّ منا، حتى وصلنا مدخل شفاعمرو، مشى المجرم بتروٍ باتجاه السائق. رفع بندقيته القذرة، وقتل قائد هذه الحافلة بدم بارد، ثُمَّ اتجه إلى صديقه الجالس خلفه وقتله بغضب، قتله بإصرار وإلحاح، واطمأنّ أنَّهما ماتا".
وأضافت: "والآن توجَّه إلى اليسار، وبدأ بمجزرة قتل الأختين. أطلق الرصاص، وأطلق وأطلق وأطلق، أجل أطلق الكثير من الرصاص، لا بل أكثر حتى صرخَت إحداهما (قتلتَ أختي اتركني) وصرخت الأخرى (أشهد أنَّ لا إله إلّا الله)... هذا هو الموت همس عزرائيل في أذني...أجل سمعتُه بل وعرضَ عليّ صُوَر الكثير من الموتى في السماء... كانوا يرتدون الأبيض ويرحبون بي رغم خوفي الشديد منهم... جلستُ بهدوء في مكاني تحت الكرسي، وقد غطَّت الدماء كلَّ مكان حتى جسدي كان مُلطَّخاً بها... ورأيته يقترب نحوي يبحث عني على وجه التحديد، حتى رآني مقرفصة، أجل كنت مذعنة وخائفة وضعيفة، وضع بندقيته السوداء على مؤخرة رأسي، وأطلق رصاصة باتجاهي لكنّ الموتى الذين كانوا ينتظرونني اختفوا وما عادوا يريدونني... يبدو أنّ رصاصته خانته، ولم ترد قتلي، هي على الأرجح أشفقت على أُمٍّ قلبها معلَّق بي تنتظرني، وقد جهَّزت طعامي على الطاولة، وهي بالتأكيد قد أشفقت على أبٍ يهمس لي في كل صباح (إنتِ بتسوي مية زلمة)... أو أنها أشفقت عليّ أنا، فأنا أخشى الموت، وأخشى البقاء تحت التراب وحدي من دون ونيس... أجل أخشى بشدة.
قاومتُه بكل قوتي تمامًا كما علَّمتني أمي، وتمامًا مثل مية زلمة كما همس لي أبي... حتى استطعتُ التغلُّب عليه، هذا الأسوَد اللعين. ألم تعلم كلَّ هذا يا فيسبوك؟! إن كنتَ لم تعلم، فهذه قصتي أنا، وقصة بلد أبيّ، وقصة شعب يقاوم لكي يتنفّس، وقصة سأرويها في كلِّ عام حتى تبقى ما بقينا، لكن أود أن أذكرك أنّ كل ما حصل لن يُغيِّر حقيقة أنَّك (وطني الرائع يا وطني)".