الأزمة الحالية المركَّبة من قِبَل عدة قوى دولية وإقليمية ومحلية، هي ليست الأولى التي تواجه القيادة الفلسطينية، وليست النهائية، نظراً للقرار المعتمد على الأقل أميركياً وإسرائيلياً لتصفية القضية الفلسطينية، بعد أن أغرق هذا التحالف الثُّنائي المنطقة العربية بالقتال المذهبي والطائفي، والإثني، والسياسي، مع تصعيد عسكري مُدمِّر، وصواريخ وقنابل كيماوية مُبيدة للبشر والحجر ممَّا جعل أنهار الدماء النازفة تجري في الساحات والوديان إلى جانب أكوام وتلال الجثث المهترئة من أبناء هذه الأُمَّة الذين قسا عليهم الزمان، فقدَّمهم وجبةً شهيّةً لأسياد الحرب والتجبُّر والعنصرية.

وبرأينا لا تستطيع الأنظمة العربية، ولا الشعوب العربية أن تقول بأنَّها انتصرت، لأنَّ الصراعات على اختلاف مشاربها ما زالت دائرةً، والدم ينزف، والصراخ يعلو، والمقابر تمتلئ، والمستشفيات تعج بالضحايا. ووحده الكيان الصهيوني يتنفَّس الصعداء، وهو يرى أبناء الأُمَّة العربية غارقين حتى الناصية بدماء الأطفال والنساء، والكبار والصغار، والمدنيين والعسكريين، كلّهم تلتهمهم ألسنةُ النيران، أمّا قيادة العدو الإسرائيلي فيستمتعون بجمال هذه المشاهد التي أشعلناها بأيدينا، ونسينا بسبب كابوس جهلنا بأن العدو الإسرائيلي هو عدو شعبنا، وأُمَّتنا، ووحدتنا، وحضارتنا، ومستقبلنا، لأنَّ الجهل هو الذي يتحكَّم بعقولنا، وثقافتنا.

وحده الرئيس أبو مازن أدرك أبعاد ما جرى ويجري، وعرفَ أنَّ ما سُمّي بالربيع العربي، رغم جمالية الاسم والمصطلح البرَّاق، إلاَّ أن الولايات المتحدة ومعها الجانب الإسرائيلي سمَّموا هذه المناخات التي بدأت بريئة لكنها سرعان ما انغمست في الدماء، ولهيب الصراعات المذهبية والطائفية، وانتشار الأوبئة، وسيطر كابوس الرعب على اللاجئين.

ومن هذا المنطلق تعاطى القائد التاريخي الحريص والمجرِّب مع هذه التطورات بحذر، وأبلغ الجميع أنَّنا كفلسطينيين لسنا طرفاً في الصراعات، لأنَّ البوصلة الفلسطينية تتجه نحو عدو واحد هو الذي احتلَّ أرضنا، ودنَّس مقدساتنا، وعذَّب، وقمع، ونكَّل بشعبنا، وهو الذي يصر على استيطان أرضنا، وتدمير بيوتنا، ولذلك لا نقبل أن يكون لنا عدو آخر.

هذا الموقف الحكيم والرزين كان مدخلاً لمطالبة الجميع بالحفاظ على أمن وسلامة المخيّمات الفلسطينية، وجنَّبنا شعبنا مخاطر هذه الصدامات في أكثر من مكان، ورفضت القيادة المتاجرة بدماء شعبنا لمجرد تسجيل مكاسب سياسية وحزبية هنا أو هناك، لأنَّ فلسطين هي الجوهرة، والقدس هي الدرة المقدسة.

ورغم الجهود المتواصلة التي بذلها سيادة الرئيس أبو مازن لإقناع العالم بدعم ومساندة شعبنا الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال، ووسط الاستيطان، والذي يواجه الإرهاب الإسرائيلي ليل نهار، وهو في جولاته السياسية يضغط دائماً على الدول الصديقة والمحبّة للسلام من أجل نُصرة شعبنا في صراعه لاستعادة حقوقنا المشروعة. وهنا لا بد من تثمين هذه الجهود الدبلوماسية والسياسية والقانونية التي مكَّنتنا من الحصول على قرار من مجلس الأمن 2334 برفض وجود الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في القدس المحتلة. إلى جانب قرارات صدرت عن منظمة "اليونسكو"، وهي صريحة وواضحة بأنَّ القدس إسلامية، وكذلك الأقصى وباقي المواقع الدينية هي عربية سواء أكانت إسلامية أم مسيحية. إضافة إلى القرار الأخير الذي صدر من منظمة "اليونسكو" والذي يؤكِّد أنَّ الحرم الإبراهيمي هو مسجد إسلامي عربي، ولا يوجد لأي فئة يهودية أي أثر أو حق فيه. وهذا ما أكَّده كافة المؤرخين وعُلماء الآثار بمن فيهم اليهود.

وفي ظل هذه الظروف برزت متغيرات سياسية هائلة كان لها الأثر السلبي الكبير على القضية الفلسطينية، ولا بد أن نأخذها بعين الاعتبار حتى نكون موضوعيين في أحكامنا، ومؤتمنين على قضيتنا، وسلامة مسيرة ثورتنا وشعلتها التي يجب أن لا تنطفئ حتى النّصر والتّحرير.

أولاً: إنَّ الثورة دائماً تعتمدُ في مسيرتها واستمراريتها على عوامل الصمود، وعلى المعادلات السياسية الدولية، والإقليمية، والمحلية، فالثورة الفيتنامية تلقَّت الدعم المتواصل من الصين والاتحاد السوفياتي تسليحاً، وتذخيراً، وسياسياً، وقد ساعد على الانتصار أنَّ فيتنام الشمالية كانت مُنطلَقاً لقتال وتحرير فيتنام الجنوبية.

أمَّا في الواقع الفلسطيني فنصف شعبنا خارج أرض الوطن، ومن هُم في الداخل تحت الاحتلال الكلي يعيشون في ظروف مالية، واجتماعية، وصحية صعبة، فنسبة البطالة مرتفعة، والجوع قاتل، وعشرات الآلاف يهربون يومياً إلى المستوطنات أو إلى أراضي الثمانية والأربعين ليعملوا حتى يؤمنوا لقمة العيش لأبنائهم، ويواجهون كل يوم الابتزاز، والضغوطات، والتهديدات، وللأسف الأسواق العربية مُغلَقة أمام هؤلاء، والدعم المالي العربي أصبح مقاطعة مالية، فلا يُقدَّم للشعب الفلسطيني إلاَّ النزر اليسير، وهذه المقاطعة العربية جاءت بضغوطات أميركية، ومراعاة خواطر الاحتلال الإسرائيلي، فالمستوطنات تعيش في رخاء ونعيم، أمَّا المناطق والمخيّمات والأحياء والقرى العربية فهي تعيش في جحيم. إنَّ هذه الأزمة القائمة بقرار سياسي هدفه إضعاف صمود شعبنا وثورتنا، وتقويض مقاومة وصلابة شعبنا، وتركيع القيادة الفلسطينية حتى تصل إلى مرحلة الاستجداء من أبناء جلدتنا.

وعلى أرض الواقع رفض أبو مازن التسوُّل، كما رفض الابتزاز من العرب وغير العرب، وحافظ على كرامة وشرف الشعب الفلسطيني، ولم يستجدِ أحداً رغم المجاعة التي نعيشها في المنظمة وفي "فتح" خاصة، فعلَّمنا أنَّ الكرامة الوطنية أولاً، وعلَّمنا الشموخَ والعزة، وظلَّت هذه الهامة القيادية  منتصبة ولا تنحني إلاَّ لله. هكذا يواجه الرئيس أبو مازن الأزمات المدمِّرة والقاتلة، بالصلابة، بالإيمان، بالاعتزاز، بإرادة شعب الجبّارين.

ثانياً: إنَّ جوهر المعركة التي تشنها أطراف دولية وإقليمية وعربية ضدَّ الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس هو السيطرة على القرار الفلسطيني الوطني كمقدمة لإجبار القيادة الفلسطينية على تقديم التنازلات المطلوبة لإرضاء الجانب الإسرائيلي، واسترضاء الولايات المتحدة، وأن ينصاع الرئيس أبو مازن للرغبات العربية، وأولها التطبيع وصولاً إلى تصفية القضية الفلسطينية.

لا شكَّ أن جوهر المشكلة والهجمة الشرسة على شرعية الرئيس أبو مازن هدفها شطب القرار الفلسطيني المستقل الذي تمسَّكت به قيادة منظمة التحرير، وحمته حركة "فتح" في مختلف المحطات، وفي أحلك الظروف، وهذا الأمر يُسجَّل لمنظمة التحرير ولحركة "فتح"، لأنَّه لولا المواقف الصلبة والدفاع المستميت عن هذا القرار لكانت "م.ت.ف" في خبر كان كحركة وطنية، ولتمَّ بيعها في سوق النخاسة. ولذلك علينا أن لا نستغرب من شدة الهجمة، ومن كل الجهات، ومن معظم الأطراف المعنية بهذا الأمر. وللأسف أنَّ هناك أطرافاً فلسطينيةً نسيت أو تناست أنَّ الكيان الإسرائيلي العنصري المحتل هو عدو الشعب الفلسطيني، وليس الرئيس أبو مازن الذي هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس دولة فلسطين، ورئيس حركة "فتح"، ورئيس السلطة الوطنية. الرئيس أبو مازن هو قائد شعب، وليس قائد فصيل، وهو قائد الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس قائد سلطة أو تنظيم، وهو يتحمَّل المسؤولية التاريخية، ولا يستطيع الدخول في مغامرات غير محسوبة، أو اتخاذ قرارات غير مدروسة، أو تغليب الانفعال والحماسة. وردود الفعل العشوائية في قضايا مصيرية تحدِّد مستقبل الشعب الفلسطيني، فهو يختار أحياناً المرونة التي لا تمس بالجوهر حتى لا يصل إلى الانتحار والتدمير الذاتي، وهذا هو الفرق بينه وبين غيره من الذين يريدون دفعه دفعاً لاتخاذ قرارات غير مدروسة في قضايا استراتيجية.

ثالثاً: إنَّ المنطق السياسي الوطني يقوم على وجود وحدة وطنية تجمع الصف الفلسطيني بكل أطيافه في إطار "م.ت.ف" التي هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وهذا يتطلَّب وجود إستراتيجية سياسية واحدة تضبط الإيقاع السياسي، والأداء اليومي الجماعي.

وعلى هذه القاعدة يستطيع القائد أن يقود شعبه، وأن يخوض معاركه السياسية، والأمنية، والعسكرية، والجماهيرية. ولكنَّ المؤامرة القاسية والمفخَّخة أخذت بُعدها التدميري داخل الساحة الفلسطينية وبشكل تصعيدي مُمنهَج ذات أبعاد تفكيكية للجسم الفلسطيني، يستند إلى تأجيج الصراع داخل الصف الفلسطيني، وبعيداً عن الاحتلال الإسرائيلي. وهكذا استطاعت القوى المضادة إشعال نيران الفتنة داخل البيت الفلسطيني الذي يُشكِّل قلعة الصمود والتحدي بوجه الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في زمن التراجعات الوطنية والقومية، وفي زمن المتاجرة بالمبادئ والقيم.

وفيما يلي عدة محطات مؤلمة استهدفت الموقف الفلسطيني الموحَّد، ووضعت الرئيس أبو مازن أمام خيارات صعبة:

أ- الرئيس استجاب للطلب الدولي بإجراء الانتخابات العام 2006 لتوحيد الصف. لكنَّه فُوجِئ بأنَّ الأطراف المحلية غارقة في مشروع سياسي أمني عسكري، والذي تمَّ تنفيذه بتوافقات إقليمية بما في ذلك موافقة الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي. وقد بدأ المشروع بقرار شارون سحب جنود الاحتلال، والمستوطنين والمستوطنات من أراضي القطاع بشكل مفاجئ وسريع، وأصبح القطاع ساحة مبرمجةً للصراع الفلسطيني الفلسطيني المسلَّح.

وجاءت الخطوة الثانية من قيادة حركة "حماس" التي قامت بانقلاب عسكري على الرئيس أبو مازن، والسلطة الوطنية بكل أجهزتها وقواتها والذي سمّاه قادة "حماس" أنَّه قرار الحسم، ومنهم من قال أنَّه قرار الضرورة، لكن في النهاية ضحايا هذا الانقسام بلغ عددهم سبعماية ضابط وكادر وجندي. وبعض الفصائل كانت على علم بما جرى، لكنَّها أخذت موقفاً حيادياً، وهذا ما شكَّل ضربة فلسطينية قاسية لمنظمة التحرير، بينما الكيان الإسرائيلي كان سعيداً مرتاحاً لهذه النتائج. وما حصل يومها في القطاع لم يلقَ استنكاراً من أي جهة رسمية عربية أو إسلامية.

ب- في الوقت الذي بذل فيه الرئيس أبو مازن جهوداً مُضنية لإنهاء هذا الانقسام إلاَّ أن قيادة حركة "حماس" كانت تُدير ظهرها كلياً لكلِّ الاقتراحات التي تقدَّم بها الرئيس. خاصّةً أنَّ الأطراف على اختلافها تعاملت مع هذه التطورات على أنها جزءٌ من الواقع، ولهذا لم تمارس الضغوطات المطلوبة على قيادة "حماس" التي شقَّت الصف الفلسطيني بانقلابها، وقسَّمت الوطن إلى وطنَين، والشعب إلى شعبَين. ووضعت الحركة الوطنية الفلسطينية أمام واقع مؤلم وغريب عن الساحة الفلسطينية، وهو واقع الشقاق والخلاف، والسيطرة بقوة السلاح على أهل غزة، وغياب كل أشكال الديمقراطية، والعمل المشترك، والاستقرار والأمان.

ج- إنَّ الضرورة كانت تستوجب من الدول العربية والإسلامية الصديقة أن تمارس دوراً ضاغطاً لحمل حركة "حماس" على التراجع عن انقلابها، وأن تعيد حساباتها الوطنية والسياسية إذا كانت تعتبر نفسها جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن تلتزم بالترتيبات التي تمَّ الاتفاق عليها في القاهرة وقطر والشاطئ، ووقَّع عليها الجميع، لكنَّ السؤال الجوهري الذي بقي يقرعُ آذان الجميع: لماذا تصرُّ حركة "حماس" على الانقلاب؟ ولماذا ترفض المصالحة وإنهاء الانقسام؟ وهل هذا الأمر يخدم قيادة حركة "حماس" لأنَّ رؤيتها واستراتيجيتها السياسية تقوم على التمسُّك بقطاع غزة تحت سيطرتها الكاملة طمعاً بجعله قاعدة لكيان سياسي فلسطيني مستقبلي، وهو ما تحدَّث عنه المشروع الإسرائيلي المقترَح للحل السياسي للصراع القائم في المنطقة، وأسمى ذلك بالكونفدرالية الفلسطينية المصرية، وذلك في إطار رمي القطاع في حضن مصر، ورمي تجمعات الفلسطينيين في الضفة في حضن الأردن. وهذا الحل الذي ترتاح إليه إسرائيل العنصرية المحتلة. فهل انتهى شيء اسمه المصالحة وإنهاء الانقسام؟ وفي مثل هذه الحالة ما هو ذنب الرئيس أبو مازن الذي أمضى عشر سنوات وهو يسترضي حركة "حماس"، ويُقدِّم لها التنازلات بما يزيد على 57% من موازنة السلطة؟؟! ألا يستحق من حركة "حماس" ومن القيادات الفلسطينية الأخرى التي دأبت على توجيه الشتائم والاتهامات، والتحريض، والتخوين إلى سيادة الرئيس أبو مازن أن يتوقفوا عن السير في هذه المشاريع والمخططات التي تُدمِّر البنية الداخلية للمجتمع الفلسطيني؟؟ وعلى قيادة حركة "حماس" أن تعطي إجابات واضحة وجريئة لأن الانقسام أزَّم ودمَّر المجتمع الفلسطيني، وأثار الأحقاد، والضغائن، وعمَّق الفجوة القائمة. ونحن نسأل والجميع يتساءل إلى أين سيذهب قطاع غزة بعد هذه الوقائع المؤلمة؟؟!!

د-ومن حقنا أن نتساءَل عن مقومات التفاهم الأخير بين حركة "حماس" ومحمد دحلان، وعلى أي أساس تمَّت التفاهمات. فهل المقصود منها تعزيز الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام، أو أنَّ المقصود هو تعزيز الانقسام وتأبيده، وهو المشروع الذي باركته إسرائيل منذ البداية، وهي تُقدِّم وعوداً مُشجِّعة بجعل القطاع إذا انضبط للشروط والقيود المطلوبة بأن يصبح سنغافورة جديدة بعد إغراقه بالاستثمارات، والمدن الصناعية، والشركات، إضافة إلى الميناء والمطار، وهذا ما أصبح واقعاً على حساب المشروع الوطني، الذي يجب أن يتجسَّد دولةً فلسطينيةً موحَّدةً ومستقلةً على الأراضي المحتلة في الرابع من حزيران العام 1967، والقدس الشرقية هي العاصمة الفلسطينية.

هل فهم الأخوة القرّاء لماذا هذا التشهير والتحريض والتشكيك الدائم بالسيّد الرئيس أبو مازن من قِبَل جهات متورطة في المشروع الإقليمي؟! لكنَّنا في حركة "فتح" اعتدنا من خلال مسيرة الزعيم الخالد ياسر عرفات، واليوم من خلال مسيرة الثابت على الثوابت محمود عبّاس، بأنَّنا لن نتنازل عن ثوابتنا الوطنية، ولن نساوم على مبادئنا، وسنبقى القرارَ الصعب، وسنظل المؤتمَنين على القرار الفلسطيني المستقل، ولو كان السيف على أعناقنا لأنَّ فلسطين ومقدّساتها أكبرُ من الجميع.