خاص مجلة "القدس" العدد 337 ايار 2017

تحقيق/ مصطفى ابو حرب

ليسَ من فلسطيني في العالم لم يعرف مرارة النكبة والتهجير. فالفلسطيني لم يُهجَّر فقط من وطنه إلى بلد يعيش فيه بسلام، ولكنه هُجِّر حتى من مكان لجوئه، حتى تحوَّل اللّجوء والتهجير إلى خبزه اليومي. غير أنَّ الفلسطينيين بعد 69 عاماً على اقتلاعهم من أرضهم، وتهجيرهم من مخيّم نهر البارد ومخيّمات سوريا وغيرها، ما زالوا يؤكّدون تمسُّكَهم بحقِّهم في العودة إلى أرضهم وديارهم، ورفضَهم كلَّ المحاولات الرّامية إلى المساس بهذا الحق.

 

كبارنا جسرٌ يربط بين الوطن والمنفى

لم تكن مديرة مركز الشيخوخة النشطة في مخيَّم نهر البارد السيدة "أم يامن" قد وُلِدَت بعد يومَ حلَّت النكبة بشعبنا، لكن مَن ينصت لها يُخيّل إليه أنَّها عاشت دهراً في بلدتها الدامون شمال فلسطين، وحول ذلك تقول: "ولدتُ في مخيّم نهر البارد في لبنان، ولكنَّني أعرف قريتي جيّدًا بأسماء الشوارع والمزروعات والعائلات، وذلك من خلال أحاديث جدي وجدتي اللّذين زرعا في ذاكرتي تاريخ وجغرافيا بلدتنا وعموم القرى والبلدات المجاورة. لقد عشنا الانتماء لفلسطين رغم أنَّنا في صلب التغريبة الفلسطينية مشرَّدون في أصقاع الأرض".

وعن رؤيتها للسبيل الأجدى لمحاربة الاحتلال تقول: "محاربة الاحتلال تكون بالانغراس في الأرض، بحيثُ يكون في كل قرية وفي كل بلد رجال ينبتون مثل الأشجار، وسوف تمتدُّ هذه الأفرع لحين تحقيق النصر على أيدي الأجيال القادمة إن شاء الله".

وتضيف: "لقد منحني عملي المباشر مع شريحة المسنين الشاهدة على نكبة العصر صلابة الماضي كي أكون قوية في الحاضر. هؤلاء "الختياريّة" جواهر نادرة، وأنا أغبطهم لأنهم ذاقوا وأكلوا من خيرات بلدنا فلسطين. إنَّهم خميرتنا للأيام القادمة، ونحن نعتزُّ بهم، فكل حطّة وعقال اعتمروه هو حضارتنا، وهؤلاء صاروا هياكل تتكلَّم، يعبّرون عن تراث بلادنا، نسأل الله أن يمدَّ بأعمارهم ليبقوا فوق رؤوسنا ولنستمر باستمداد القوة والعزيمة منهم، فهم الجسر الذي يربط ما بين فلسطين والمنفى، وسنعبر من خلالهم لبلادنا إن شاء الله.. من خلال كلماتهم، ونظراتهم، ومن خلال الأشياء التي حملوها معهم من فلسطين".

وتنوَّه أم يامن إلى عزمها على إعداد كتاب مُستمَدٍ من أحاديث كبار السن عن الأمثال والحكايات الفلسطينية الشعبية وأغاني وأهازيج الطفولة والألعاب التي كان الأطفال يلعبونها في فلسطين، وتردف: "أحدايث كبارنا أشبه بموسوعة، ومن المهم توثيق هذه الأمور المرتبطة بتراثنا وعاداتنا لأنَّها شهادةٌ لا يمكن تزويرها أبداً، فنحن شعبٌ لنا أرض ولنا هوية ولنا انتماء".

 

أتمنّى الرجوع لصفورية ولو مشياً على الأقدام!

بهمةٍ وتركيز كانت الحاجة نظمية درويش سليمان "أم إبراهيم" (81 عاماً) منهمكةً تُصلح أمراً ما بيديها، تسألها: شو عم تعملي حاجة؟ فتجيب وهي تواصل عملها: "طابون فرنية منشان يخبزوا الصبايا".

أم إبراهيم التي خرجت من بلدتها صفورية وهي في الحادية عشرة من عمرها، تؤكِّد أنها لم تنسَ شيئاً من ملامح قريتها بل ومن ملامح قرى أخرى! وبسؤالها حول أكثر الذكريات حضوراً في بالها عن بلدتها تقول: "كان أهل صفورية قبل النكبة يعملون ويزرعون ويفلحون، لقد كانت أياماً جميلة بحق، الجميع كانوا يعملون في الأراضي الزراعية التي كانت تُزرَع بشتى أنواع المحاصيل، وأذكر أنه كان في بيتنا شجرة تين كبيرة ومثمرة، كان منظرها بديعاً، وكان كلُّ أبناء القرية يقطفون منها. أيضاً كان الأهالي يشجّعون أبناءهم على استكمال تعليمهم، ذكوراً وإناثاً، وقلّما كنت تجد أحداً لم يلتحق بالمدرسة".

وعن أبرز العادات الخاصّة بالأعراس في صفورية، فتقول: "قبل العرس بثلاثة أيام كانت تبدأ التحضيرات، وكان يتم ذبح الذبائح وطهو الطعام لإطعام جميع أهل البلدة، ولأهل العروس وعائلتها".

الخروج من صفورية كان أصعب اللّحظات وأكثر الذكريات إيلاماً كما تقول الحاجة أم إبراهيم، حتى أنَّ تفاصيل يوم خروجها من بلدتها ما زالت عالقة في ذهنها كما لو أنَّها أمامها، إذ تقول: "داهمت الدبابات طريقاً كان اسمها المصلي، وبدأ الجميع يقول إنّ إسرائيل قد وصلت إلى البلدة، ثُمَّ أخذت الزجاجات الحارقةٌ تنهال، فهربنا والتجأنا حيثُ توجد أشجار زيتون، ثُمَّ بدأت الطائرات بقصف البلدة، وأخذ الأهالي يقولون أن البلدة سقطت، وارتفع صراخ النسوة، وكنا في حيرة من أمرنا إلى أين نذهب وكانت جدتي معنا، فوصلنا بلدة اسمها عرابية، وتوجَّه جدي وجدتي لبلدة كفركنا. ولاحقاً هُجِّرنا إلى لبنان، وأقمنا بدايةً في القرعون نحو سنة، ثُمَّ انتقلنا إلى نهر البارد الذي كان حينها ساحة واحدة، فيما توجَّه والدي إلى طرابلس، وكان هناك رجلٌ معه عربة كبيرة فيها (شوادر)، فكان يعطي شوادر للناس لتأوي إليها، ونصبنا الشوادر قريباً من النهر، وأخذت النسوة وكنتُ بينهن، بغرف المياه من أحد الآبار، وكنا نصفّي المياه باستخدام الشاش عند فتحة البئر لتعبئة دلاء الماء وأخذها للشوادر، ومع مرور الوقت عمَّرنا بيتاً، ولكن للأسف خسرنا كل شيء بعد نكبة نهر البارد التي كانت أصعب من نكبة فلسطين".

وعن معايشتها لأحداث نهر البارد قالت: "من بداية حياتي وأنا أتجرّع كأس الهموم، ولكن الحمدلله على كل حال، لقد أثقلت هذه النكبة همومنا، فقد رحلتُ إلى مخيَّم البداوي ولم يكن هناك متَّسع للعدد الكبير النازح من نهر البارد، فتشرّد أولادي في عدة أماكن، لدي أخت تأتي لزيارتي من بيروت، وابنتي أخذت أولادها وتوجَّهت إلى مخيَّم برج البراجنة في بيروت، أمَّا ابني فوجدَ بيتاً في مخيّم البداوي، ومكثنا في البداوي نحو خمس سنوات، والحمدلله زوّجتُ 9 أولاد". وتختم كلامها قائلةً: "أتمنّى الرجوع إلى بلدتي صفورية ولو كان مشياً على الأقدام، أتمنّى أن تزول كلمة لاجئ عن كاهلنا، ونعيش بكرامة وحريّة في بلادنا، ولا أريد سوى رحمة الله، فالإنسان لا يشعر بالراحة إلّا في وطنه، مع كامل المحبّة والاحترام للبنان الغالي، وما قدَّمه لشعبنا الفلسطيني في الشتات طيلة هذه الفترة والمرحلة الصعبة من حياة اللجوء القسري".

 

نكبة البارد كانت أصعب بكثير من نكبة فلسطين

لم يكن قد تجاوز عمر الحاج محمد مصطفى قاسم (مواليد العام 1935) العشر سنوات عندما بدأت عمليات التضييق اليهودية على الفلسطينيين في بلدته عمقا، إذ يقول: "بدأت الأحداث عندما جاء اليهود وأخرجونا من بيتنا، فتهجَّرنا عند جيراننا الدروز، ومكثنا عندهم نحو شهرين، ثُمَّ توجَّهنا إلى بلدة اسمها ينوح وأقمنا أيضاً لدى عائلة من الدروز، وبعدها إلى سوق كفر ياسيف، حيثُ بقينا نحو شهرين، وبدأ الصليب الأحمر يعطي الأهالي 10 كيلو طحين للنفر الواحد، وأوقية حليب مجفَّف، وبعد نحو أسبوعين حضر رجلٌ وقال إنَّ المهجرين سيحصلون على ملابس، وفي اليوم الثاني حضرت دبابتان لليهود وشاحنتان ودراجتان ناريّتان، فجمعوا الناس في ساحة القرية، وقالوا لنا أن نجلب وثائق الولادة والهوية وننزل إلى المدرسة في كفر سيف، وهناك وضعونا في سيارات وغطوها بالشوادر لئلا نرى الطريق، ولم يكن بحوزتنا شيء باستثناء الملابس التي نرتديها، وأنزلونا في مرج ابن عامر، ومن هناك إلى مخيّم بلاطة، حيثُ كان جيش الإنقاذ ينصب شوادر أقمنا فيها. وبدأ البحث عن سبيل لتوفير الطعام، فمن كان بحوزته بعض المال توجَّه صوب لبنان أو سوريا كل واحد حسب وضعه، ونحن كنا ممَّن توجَّهوا إلى لبنان، وبعد عدة محطّات وصلنا إلى نهر البارد، وبدأنا نحسّن وضعنا شيئاً فشيئاً، وقامت وكالة الأونروا ببناء البيوت للكثير من الناس، وبات كل شخص يبني بيته بيده، واستقر اللاجئون وشرعت الأونروا بتقديم الخدمات، ومرّت السنوات وتزوجتُ، وكبر أبنائي وعلّمتهم".

أمَّا عن نكبة نهر البارد فيقول: "لم نكن نريد أن نخرج من المخيّم، ولكن الناس أُصيبوا بالذعر وأخذوا يقولون أنَّ المخيّم سيُدمَّر. وبصراحة، فإنَّ نكبة نهر البارد كانت أصعب علي بكثير من النكبة الأولى".

وينهي حديثه قائلاً: "رغم مرور كل هذه السنوات، ما زلتُ احتفظ بالكثير من الذكريات الجميلة جداً عن فلسطين. فأنا أذكرُ ذهابنا للأرض وزراعتها بجميع أنواع المزروعات، وأذكر كيف كنت أرعى الماشية في البلدة، وأتمنّى أن أعيش هذه الذكريات وأن أعود إلى بلادي يوماً ما".

أمَّا نافذ عسقول فقد كان عمره 6 سنوات يوم خروجه من فلسطين، ولكنه رغم ذلك ما زال محتفظاً بالكثير من الذكريات عن قريته بيريا في قضاء صفد، حيثُ يقول: "كانت البيوت في بيريا متواضعة بسيطة، لم تكن هناك أبنية عالية، وأذكر أنّه كانت لدينا شجرة تين كبيرة تحمل ألذ وأشهى تين في الضيعة".

وعن رحلة الخروج من فلسطين إلى نهر البارد، يقول: "خرجنا من قريتنا إلى صفد حيثُ أمضينا بضعة أشهر، قبل مجيء قوات الاحتلال ودخولها، فخرجنا في منتصف الليل متوجِّهين إلى الصفصاف مشيًا على الأقدام وكانت المسافة طويلة. وبعد فترة، قصدنا الجنوب اللبناني، وأقمنا قرب بنت جبيل، وفي العام 1950 وصلنا إلى نهر البارد، حيثُ سكنّا في الخيام، ومع الوقت عمَّرنا بيوتاً، وصار وضع المخيّم جيّداً جداً، ومن وُلِدَ في المخيم بات اليوم له أحفاد، وقد عملتُ في المخيّم خيّاطاً، وكانت لدي ماكينة خياطة كبيرة".

ويردف: "للأسف وقعت أحداث نهر البارد في العام 2007، فخرج أولادي وعائلاتهم خلال الأيام الثلاثة الأولى. كان بيتي مؤلَّفاً من أربع طبقات، وكنت أقول إنَّني آخر شخص سيخرجُ من المخيّم، ولكنني اضطررتُ للخروج، وغادرت منزلي وليس في جيبي ألف ليرة حتى. بصراحة كانت نكبة نهر البارد أشدَّ صعوبةً عليَّ من نكبة فلسطين لأنَّني كنتُ قد بنيت بيتاً واستقريت وعائلتي وعوائل أبنائي، ولكن الآن الحمدلله عدنا للمخيم، وأدَّينا إعمار جزء كبير منه".

أمَّا عن أمنيته فيقول: "بتمنَّى مليون مرة مش مرة واحدة أرجع ع فلسطين، علواه من الله، لكفلسطين أحلى بلاد بالعالم.. كلها طبيعة".

 

مصير الفلسطيني محكومٌ بالتهجير

لم يظن محمد حسن سليمان، وهو مدرّس لغة عربية تخرّج في جامعة دمشق، أنَّه سيُضطَّر يوماً لخوض تجربة الهجرة مرةً أخرى. فسليمان الذي وُلِد في 15/2/1946 هُجِّر من فلسطين حين كان عمره عامين فقط، لذا فهو لا يذكر شيئاً عن بلدته طيرة حيفا سوى ما سمعه من أهله، وما عرفه عن رحلة التهجير التي انطلقت من طيرة حيفا إلى نابلس ثُمَّ إلى إربد ومنها إلى دمشق ثُمَّ إلى حلب، حيثُ سكنت عائلته في مخيّم النيرب في حلب 13 عاماً قبل ان تنتقل إلى مخيّم اليرموك بدمشق في العام 1962. ولكنّ سليمان الذي يعيش في ألمانيا اليوم بعد خروجه من سوريا بات يعرف أن مصير الفلسطيني محكومٌ بالتهجير، إذ يقول: "تهجير جديد يُضاف إلى التهجير من فلسطين. لم أشعر بالنكبة الأولى والتهجير الأول لصغر سني، ولكن التهجير اليوم يتم بأيدي مَن يدعون أنَّهم أخوة في الوطن الواحد وهذا أقسى ما يمكن أن يحدث. واليوم كلُّ أملنا هو العودة إلى فلسطين التي قد يعودُ إليها أولادنا وأحفادنا، وهذا حقٌّ وعدنا الله به في سورة الإسراء".