خاص مجلة "القدس" العدد 337 أيار 2017

  بقلم: الحاج رفعت شناعة

  ودَّعنا الخامس عشر من أيار، يوم النكبة، وبعد أيام سنستقبل ذكرى النكسة في 1967/6/4. تسعة عشر عاماً فصلت ما بين ذكرى النكبة الأليمة، وذكرى النكسة الأشد إيلاماً. لقد اعتقدت الأنظمة العربية يومذاك أنَّ مؤامرة النكبة استهدفت فقط الفلسطينيين، ولا علاقة للدول العربية بهذا الاستهداف، فما حصل قد حصل وكفى، وليس أمام الأنظمة العربية إلاَّ أن تحافظ على حدودها الذاتية عبر عقد الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني الجديد، ونسيان الماضي، والعمل على فرض الضوابط والقيود على المخيمات الفلسطينية، حتى لا تُشكِّل عامل إزعاج للدول العربية يسيء إلى علاقتها بالجارة المُدلَّلة والمُحصَّنة من قِبَل الدول الاستعمارية.

حاولت الدول العربية العاجزة عسكرياً إقناع نفسها بأنَّ الكيان الإسرائيلي ربيبَ الصهيونية والاستعمار أخذ ما يريد، ونفَّذ مخططه الإجرامي على أرض فلسطين، وشرَّد غالبية الشعب الفلسطيني، وأحلَّ مكانهم عصابات ومجموعات صهيونية جيءَ بها من أقاصي الأرض، من خلال الانتداب البريطاني، الأب الروحي لهذا الكيان العنصري الذي زُرع في قلب الوطن العربي، في إطار مشروع سياسي لا يكتفي باقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وشطب هويته الوطنية، وتدمير كيانه السياسي، وإنَّما الهدف الأكبر والأشمل والأشد خطورة هو أن هذا الكيان العنصري الممتلئ عدوانية وحقداً على وجود الأمة العربية، بدأ يستنزف جسمَ هذه الأمة، كونه الغدة السرطانية المحشوة بسموم الفِتن ما ظهر منها وما بطن، ولم يعد خافياً على أحد خلفيات الصراعات والنزاعات التي شهدها العالم العربي خاصة منذ العام 2010.

لم تصلْ حدود الفتنة في الوطن العربي إلى أن يذبح أهلُ الوطن بعضَهم، وأن يقاتل الشيعيُّ السني، والمسلمُ يقاتل المسيحي، وعملياً وبفعل وجود قوى عسكرية  على الأرض تعزّز القتال، والتهبت الجبهات، واحترقت البلاد، وتناثرت أحجارُ الموت وجدرانها، والآثارُ وتراثها مختلطة بالجثث المقطَّعة، والدماء النازفة.

ولم يعد خافياً على أحد أنَّ العدوَّ الإسرائيلي هو المنتصر الأول، لأنه يشاهد بنفسه ما كان يطمح إليه من تمزيقٍ للأمة العربية، وتدميرٍ لأكبر وأعرق وأهم المدن العربية كبغداد، وحلب، وتدمر، ودمشق، واليمن، وسرت، ومصراتة.

نحن اليوم أمام المشهد الذي صنعته إدارة ترامب الجديدة على أنقاض ثماني سنوات من حكم أوباما، الذي لم يستطع أن يسجِّل اختراقات على صعيد القضية الفلسطينية، وإنما أصابه الضعف والوهَن، فاضطر أن يتراجع عن وعوده أمام غطرسة نتنياهو وعنجهيته الصهيونية، التي ترفض كافة المحاولات –خاصة الأميركية- الرامية إلى التدخل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

لقد أصبحت "الصفقة" التي تحدث عنها ترامب واضحة الملامح في خطواتها العامة، ودخلت المجال التنفيذي والمباشر بسبب الرغبة العربية الجامحة، لفتح أبواب العلاقات الأميركية العربية والإسلامية واسعةً أمام طموحات رئيس أميركي جديد، متعطِّشٍ لتحقيق إنجازات اقتصادية وسياسية على وجه السرعة حتى يتمكن من مواجهة الأصوات المؤثِّرة في انتقاداتها، وأحكامها، والخبيرة في متابعة وتسجيل الهفوات، والسقطات، والتجاوزات غير المحمولة ولا المقبولة، ومظاهر السلوك الترامبي الشخصي وانعكاس ذلك على موقعه الرئاسي، ومستقبله السياسي.

ترامب كان محظوظاً لأنَّه وجد كافة الأبواب العربية والإسلامية مفتوحة إلاَّ باباً واحداً كان مفتوحاً أيام أوباما وهو اليوم مغلَق إنه باب إيران، وعندما وصل ترامب بمشروعه الجديد، والقائم على حسابات جديدة تضع في رأس الصفحة الأولى المصالح العربية والإسلامية بشكل عام، والخليج العربي بشكل خاص، وهذا الأمر يتطلّب بدون شك إخراج إيران من التحالفات الجديدة إرضاءً لإسرائيل أولاً، ثم إرضاءً للخليج العربي، بعد أن تمَّ تسويق حالة العداء المطلَق لإيران، على أساس أنَّها هي مصدر الخطر على الأمة العربية وليس إسرائيل.

الرئيس الأميركي الجديد سمع كلاماً مهمّاً في القمة الأميركية العربية الإسلامية، والكلام جُلُّه كان يصبُّ في معادلة تقول: بأن نضع البيض العربي والإسلامي في السلة الأميركية، وهذا خيار استراتيجي نظراً لما يحملُه من حقائق، وخيارات محسومة، وتعهدات موثَّقة، ومعادلات ثابتة.

بالمقابل فإنَّ ترامب لم يكن كريماً في تقديماته ووعوده، وإنما في إطار حساباتٍ دقيقة تأخذ بعين الاعتبار أنه لا ثوابت في العمل السياسي، فهو تعهَّد وطلب من الجميع أن يتعهدوا بمحاربة الإرهاب، والحرب على الإرهاب والتطرف في المرحلة السابقة كان مكلفاً سواء مالياً، أو بشرياً، أو عمراناً واقتصاداً، والآن المطلوب من الدول العربية الخليجية أن تموِّل هذه الحرب، لأن الولايات المتحدة واضحة منذ الحرب على العراق بأنَّها مستعدة لقيادة الحلف العسكري المكلَّف بالحرب والتدمير، أمَّا التكلفة من الطلقة إلى الطائرة فيدفع الجانب العربي الثمن كاملاً.

كما أكد ترامب اعتبار إيران هي مصدر الإرهاب في المنطقة.

أمَّا الكيان الإسرائيلي العنصري فهو ليس كياناً إرهابياً، وإنما هو كيان صديق للعرب، وهو معني بالوقوف أمام أيِّ خطرٍ إيراني في المنطقة يهدد الدول العربية، وكأنه في هذه الرسالة يشجِّع العرب ويطالبهم بتطبيع علاقاتهم مع الجانب الاسرائيلي لأنها هي ستكون حامية الحمى.

إنَّ جوهر هذا التحرك يتوقف على مكانة القضية الفلسطينية في الحلول التي سيتم اقتراحها، وتداولها، وإقرارها. وحتى ندخل في صلب هذا الموضوع نحن مضطرون أن نحيط بعدة جوانب تسهِّل عملية فهم التوقعات المستقبلية:

فلسطينياً: الرئيس أبو مازن، رئيس دولة فلسطين أكد في مؤتمره الصحفي في بيت لحم مع ترامب مجموعة نقاط:

أ-أن ينالَ شعبنا حريته واستقلاله هو مفتاح السلام والاستقرار في منطقتنا والعالم.

ب-أكد الرئيس التزامه بالتعاون مع ترامب لعقد صفقة سلام تاريخية مع الإسرائيليين وكذلك العمل معه كشركاء في محاربة الإرهاب.

ج-أكد الرئيس الموقف الفلسطيني باعتماد حل الدولتين على حدود العام 1967، وحل قضايا الوضع النهائي كافة على أساس قرارات الشرعية الدولية، والاتفاقات الثنائية بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي.

د-شدَّد الرئيس على أنَّ الصراع ليس بين الأديان... وأنَّ المشكلة مع الاحتلال والاستيطان، وعدم اعتراف إسرائيل بدولة فلسطين.

ه-على إسرائيل الاستجابة لمطالب الأسرى المضربين عن الطعام لأن مطالبهم إنسانية وعادلة.

في مجمل هذه النقاط فإنَّ الرئيس محمود عباس أكدَّ الثوابت الفلسطينية ولم يجامل أحداً، وهي بمجملها تقوم على قواعد الشرعية الدولية.

أمَّا الرئيس ترامب فما ذكره في مؤتمره الصحفي حَملَ طابع المجاملات، والأمور العامة غير الجوهرية بما يتعلّق بالموضوع الفلسطيني والصراع مع الجانب الإسرائيلي: (إنَّ الولايات المتحدة تتطلَّع للعمل مع الرئيس محمود عباس، من أجل تحقيق السلام، والنهوض بالاقتصاد الفلسطيني، وبناء جهود لمحاربة الإرهاب، وأنَّ السلام يجب أن يتم في بيئة خالية من العنف، وأن الولايات المتحدة ستساعد الجانبين من أجل التوصل إلى حل دائم).

وأكد ترامب أنَّ الفلسطينيين والإسرائيليين يمكنهم تحقيق السلام. لكنه طبعاً لم يقلْ كيف، ولم يذكر لا الآلية ولا المرجعية لذلك.

إنَّ كل ما ذكره ترامب لم يأتِ على ذكر أي قرار من قرارات الأمم المتحدة، ولم يذكر أي مرجعية دولية تتولى هذه المفاوضات، وبالتالي فإنَّ هذا يؤكد بأنَّ الولايات ليس لديها رؤية واضحة للحلول خاصة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولم يكنْ واضحاً في كلامه استناده المستقبلي للشرعية الدولية، وحتى لو كانت لديه نيّات حسنة فإنه لم يترجمها عملياً في خطابه ومؤتمراته سوى بكلامٍ عامٍ. كما أنَّ هذا الواقع يؤكِّد بأنَّ القضية الفلسطينية ليست هي القضية الأولى بالنسبة إليه، وإنما هي إحدى القضايا المطروحة. فقبلها في الأهمية: هناك الصفقة المالية التاريخية التي قُدِّرت بأربعماية مليار دولار تدفعها دول الخليج لأميركا مقابل حماية الخليج من الخطر الإيراني، وهذه هي القضية الثانية في الأهمية لأنها تُلبي رغبة العدو الإسرائيلي، والخليج العربي. تشكيل حلف الناتو العربي العسكري وهو الذي سيُنفِّذ العمل العسكري لضرب الإرهاب على قول ترامب.

والسؤال الذي يبرز أمامنا هو هل العرب الذين دفعوا هذا المبلغ الخيالي للإدارة الأميركية قادرون على استثماره بفرض الحل المنطقي والمتَّفَق عليه مع الشرعية الدولية، وهو حل الدولتين؟ وهل الجانب العربي الذي التزم بحل الدولتين على حدود 4/6/1967 سيظل ملتزماً بهذه القاعدة الأساسية للحل؟ وهل سيبقى المجموع العربي ملتزماً بمبادرة السلام العربية وحيثياتها، والإصرار على تنفيذ مضمونها، أي الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة أولاً قبل طرح قضية تطبيع العلاقات مع الجانب الإسرائيلي؟ وهل ستتوفَّر الجرأة القومية عند الجانب العربي لإنصاف اللاجئين الفلسطينيين، والالتزام بتنفيذ عودتهم إلى أرضهم التي طردوا منها استناداً للقرار الأممي 194، ومواجهة الجانب الأميركي بهذا الإصرار كضرورة لا بدَّ منها لمحاربة الإرهاب الدولي، وفرض السلام في المنطقة، وتمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم. وإقامة دولتهم على أرضهم النظيفة من المستوطنات.

هذه الأسئلة وغيرها أجوبتها معقَّدة، لكن لا بد من الحصول على أجوبة إذا كانت الولايات المتحدة تريد السلام في المنطقة، وهذا السلام لا يمكن أن يكون على حساب الشعب الفلسطيني، لأنَّ الشعب الفلسطيني ما زال في خندق المجابهة والدفاع عن الأرض، والعرض، والمقدسات، وما زال شعبنا ممسكاً بقضيته كقضية مركزية حيوية تفرض نفسها على الجميع، وما زالت قيادتنا تتعاطى مع كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بشموخ وإباء، وإصرار على تطبيق قرارات الشرعية الدولية، محافظين على قرارنا المستقل، متمسكين بثوابتنا الفلسطينية التي رسَّخها الرمز ياسر عرفات قبل الرئيس محمود عباس. وعلى العهد باقون.