حينما دولة من الدول لا تجد من يردعها، وتعتقد قيادتها السياسية، إنها محل إسترضاء ومحاباة الدول الأخرى، وتصبح فوق القانون، فإنها لا تعر إهتماماً  للمعايير السياسية والدبلوماسية، وتدير الظهر ليس فقط لأعدائها وخصومها، إنما لأصدقائها أيضاً. هذا هو حال دولة التطهير العرقي الإسرائيلية وحكومتها اليمينية المتطرفة بزعامة نتنياهو.

ما تقدم له عميق الصلة بما جرى مع وزير خارجية ألمانيا الاتحادية، سيغمار غابريال، الذي زار إسرائيل وفلسطين أول أمس الثلاثاء، وكان من المفترض أن يجمعه لقاء مع رئيس وزراء إسرائيل. غير إن نتنياهو وضع شرطا للقاء الوزير الألماني بعدم اللقاء مع منظمتين إسرائيليتين، هما "كسر الصمت" و"بتسيلم"، وإن لم يفعل، فإنه لن يلتقيه. لكن الوزير غابريال رفض الشرط، وبالتالي لم يتم اللقاء. وعقب الضيف رفيع المستوى على ذلك بالقول :" لم تحدث كارثة". وبلع الإهانة الإسرائيلية.

كما هو معلوم ألمانيا تعتبر من الدول الصديقة لإسرائيل، أضف إلى إنها لعبت دورا هاما في بناء إسرائيل عموما طيلة السبعين عاما وخاصة في ميدان الاقتصاد الإسرائيلي تحت يافطة التعويضات، التي دفعتها ألمانيا لضحايا الهولوكوست. ولألمانيا دور وثقل أساسي ومركزي في دول الإتحاد الأوروبي وأيضاً على المستوى العالمي. وبالتالي لماذا اتخذ نتنياهو هذا الموقف؟ وما هي دوافعه السياسية؟ هل تقتصر حدود عدم اللقاء على لقاء الوزير الألماني مع المنظمتين الإسرائيليتين أم هناك أسباب أخرى؟

بالقراءة الموضوعية لموقف رئيس حكومة إسرائيل من اللقاء مع الوزير غابريال، يعتقد المراقب وجود عوامل وأسباب أخرى. ولكن قبل الإشارة لها، فإن الملاحظة الأساسية، التي يستنتجها أي متابع لما يجري في إسرائيل، تتمثل في إضمحلال الملامح الديمقراطية في الدولة الإسرائيلية، هذا إن كان من أصله وجود للديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة. حيث لم يعد لدى قادة الائتلاف الحاكم أي قدرة على قبول أي وجهة نظر أخرى تتعارض مع رؤيتهم الاستعمارية. وهو ما يعكس مضي إسرائيل المارقة إلى متاهة الانغلاق على الذات، ورفض الصوت الإسرائيلي المعارض أي كانت مساحته وحدوده. ومواصلة خيار الاستيطان الاستعماري.

أما على صعيد الأسباب، فإنها تكمن في: أولاً الخلاف السياسي بين القيادتين الألمانية والإسرائيلية، حيث ألغت ميركل اللقاء الدوري السنوي بين الحكومتين بحجة انشغالها؛ ثانياً كما رفضت لقاء نتنياهو لذات الاعتبارات، لاعتقاد ألمانيا أن الائتلاف الحاكم في إسرائيل يعمل وفق خطة منهجية على تصفية خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967؛ ثالثا رفض القيادة الإسرائيلية دخول أي قوة أوروبية أو غيرها على الوساطة فيما بينها وبين القيادة الفلسطينية. وتصر على بقاءها في اليد الأميركية فقط؛ رابعا عدم خشيتها من ردود الفعل الألمانية أو الأوروبية.

لكن الخطوة المتغطرسة لنتنياهو ألا يجوز لها أن تدفع الحكومة الألمانية ودول الإتحاد الأوروبي للتفكير ملياً بما ستؤول إليه الأمور في حال بقيت الأمور على ما هي عليه؟ وهل ستبقى ألمانيا وشركاءها في الإتحاد مجرد ممول لعملية السلام المتهالكة؟ آم يفترض الانتقال إلى مرحلة جديدة ونوعية في الشراكة الحقيقية في صنع السلام، لاسيما وان فقدان الأمل وضياع فرصة تحقيق السلام سينعكس على أوروبا عموما وليس ألمانيا لوحدها؟

الواجب يحتم على ألمانيا وأوربا التفكير جديا بالخروج من الدائرة المغلقة، التي وضعتها فيها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، لإعادة الاعتبار لدورها ومكانتها الدولية الهامة في صناعة السلام لقضية العصر. وبالتالي الخروج من دوامة المراوحة والقبول بمنطق الإملاءات الإسرائيلي الاستعماري، والسعي لتأكيد الذات الإستراتيجية المقررة لدول الإتحاد في بناء جسور السلام الفلسطيني الإسرائيلي.