إن الحديث عن بزوغ وتطور الهوية الوطنية للدولة (الدول) العربية ينسجم اليوم مع مآلات الأمور في ظل معادلة التشتت والوحدة العربية، أو معادلة التفتت الجديد في مقابل حصن "الوطنية" المطلوب التمسك به في الاطار العربي الجامع.
فإن كانت (سايكس–بيكو عام 1916) قد شكلت أحد أهم أركان ظهور البلدان العربية بحدودها الحالية خاصة في منطقة المشرق ما سرّع بنشوء "الوطنيات أو الهويات الوطنية" فإن المنطقة اليوم تخوض حربا ضروسا بين تيارات عدة ودول عديدة تحاول إعادة تفكيك وتركيب المنطقة وفق معادلة القوى العالمية الصاعدة (ومنها الآفلة سابقا مثل روسيا والصاعدة حاليا) والقوى الاقليمية المتحاربة على جسد أمتنا (ايران وتركيا) وبالطبع دون اهمال دور الولايات المتحدة الامريكية.
وفي هذه المعادلة الجديدة لإعادة تفكيك وتركيب منطقتنا تُستخدم أدوات لم تكن واضحة سابقا أو لم يتم تصعيدها، وأصبحت اليوم هي الهدف والمبتغى أي إعادة تقسيم (الوطن العربي) ضمن ضرورة الصراع الخادع والمستحدث وهو الصراع الطائفي المذهبي من جهة وصراع القوميات والأقليات في الجسد الوطني.
تقسيم الوطن العربي
لم تكتف دول الاستعمار الغربي بتقسيم الوطن العربي، وإسقاط مجموعة من الاوروبيين ليقيموا في فلسطين تحت مسمى اسرائيليين لهدف أساس هو منع بروز أي قوة عربية سياسية – اقتصادية – فكرية-ثقافية نهضوية، بل وأوغلت في تحطيم البنى الناشئة لتتشكل الدول العربية على قواعد غير ديمقراطية في معظمها ما بعد الاستقلال، والتي رغم الاستقرار النسبي الذي حققته لاحقا فإنها ظلت تشكل كابوسا للدولة العبرية التي قررت بعد قضم فلسطين أن تحطيم قوة العراق وسوريا ومصر هو الهدف المركزي.
إن الاهداف الاسرائيلية في اشعال جذور الفتنة الطائفية والقومية في الدول العربية التي تمتلك اليوم (هويات وطنية) شبه مستقرة أصبحت أهدافا تتعاطى معها الدول الكبرى والدول الاقليمية معا والتي لا تبتغي إلا تحقيق مصالحها ونفوذها ولتذهب الاقطار العربية وشعوبها إلى الجحيم.
إن بروز الهويات الوطنية ما بعد (سايكس-بيكو) عام 1916 جاء في إطار المقاومة من قبل الفكرانيات=الايديولوجيات المركزية التي حكمت المنطقة بفكرها ما بين الايديولوجيات القومية (العصبوية) والاسلاموية والاشتراكية وكلها كانت فكرانيات لا تقبل إلا معسكرها وأدبياتها وتفترض بالآخرين خروجا فتُقصي كل من يعارضها عن الجادة أو التقدمية أو العروبة.
تقاتل الفكرانيات الثلاث الكبرى (الاسلاموية والقومية والاشتراكية) على وطننا وشعوبنا وعقولنا جعل من (الهويات الوطنية) الناشئة تتجذر وتستقر، ويتم فيها استخدام تلك الفكرانيات لتوطيد سلطة الحكم في كل من الدول الناشئة ليس الا.
الثورة الفلسطينية تفهم
كانت الثورة الفلسطينية أول من فهمت أهمية وعمق تحقيق الهوية الوطنية دون الاضرار بالهدف الاكبر بالوحدوية في الإطار الأشمل أي العربي والحضاري الواسع. لذا اتجهت نحو صياغة فكرة الوطنية من حيث هي التخصص والتكرس والاولوية للقضية الفلسطينية بعيدا عن أحمال الفكرانيات التي استغلت ليس لنشر العدالة والتحرر والديمقراطية والمدنية بقدر ما استخدمت لتوطيد أركان الأنظمة، فنأت عنها الثورة الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح لتكرس وتخصص وتولي النضال القطري الفلسطيني الأهمية.
تقاتل الايديولوجيات أنهكها، لا سيما وارتباط كثير من تفسيراتها بالفكر الطردي الاقصائي للآخر لتصبح حتى الوحدة العربية في هذا الزمن مما لا يلقى له بالا، وتتخذ الرؤى النهضوية الجديدة التي مازالت تؤمن بوحدة الامة أشكالا قابلة للتفاهم والتقارب أكثر وفق كثير من المشاريع سواء الوحدوية بشكلها الاتحادي (الفدرالي) أو التعاهدي (الكونفدرالي) أو الوحدوي على نمط الاتحاد الاوروبي، وفي حده الأدنى المشكوك بجدواه ضمن جامعة الدول العربية.
هل الوطنية تؤدي للقومية؟
ما اريد قوله اليوم أن استقرار (الهويات الوطنية) العربية وبداية تفاعلها واتجاهها نحو الديمقراطية والفكر المدني سواء ضمن الملكيات والإمارات أو الجمهوريات قد مر بمراحل استبداد عميق وظلم شديد فجرت الثورات العربية منذ العام 2011 والتي انحرفت عن مسارها نتيجة ركوب الموجة من قبل عدد من التنظيمات الاقصائية أو تلك المتحالفة مع المخططات الغربية وما كل ذلك إلا لإعادة تفكيك وتركيب المنطقة على أسس جديدة عرقية وطائفية تعيد الأمة عشرات السنوات إلى الوراء.
إن كنا من دعاة الوحدة بطرقها المتتابعة -أي أن إحداها تؤدي للاخرى- (الوطنية) فالحضارية القومية فإننا بغض النظر عن معادلة الأولوية بمعنى أسبقية القومي العروبي على الوطني أو العكس لا نرى فيما يحصل في المنطقة الا استنزافا لطاقات الأمة من جهة وتدميرا لمنجزاتها – وإن كان لنا فيها رأي – باتجاه تكريس الهوية الوطنية لكل دولة ولكن دون الاضرار بالفهم الوحدوي أو التضامني الذي ما زال يشد الأمة من المحيط على الخليج وإن كان مفهوم العروبة قد اختلف كليا من المفهوم العروبي العنصري القومي الاقصائي إلى مفهوم ارتباط الهوية العامة بكل (الوطنيات).
إن نشوء الهويات الوطنية مع استقلال الدول العربية بحدودها الحالية التي تتعرض للانهاك لم يكن مرحبا به من الايديولوجيات الكبرى بالمنطقة، ولكنها بعد كل هذه السنوات قد تجذرت هذه الوطنيات بحيث وسمت كل بلد وكل شعب ضمن البلد بسمات وطنية محددة أصبح الحفاظ عليها مطلبا بعد أن كان التمسك بها يعد اقليمية مرفوضة.
ومن هنا وبغض النظر عن طريقة النشوء المرتبطة بفكر استعماري تجزيئي للأمة فإن امكانية الحفاظ على هذه "الهويات الوطنية" دون مبالغات وطنية او عصبوية او مبالغات في "الاستقلالية" التي تؤدي للتقوقع والانغلاق يعتبر اليوم هدفا قابلا للتعاطي معه في سياق تثبيته من جهة، واستخدامه كمساحة انفتاح على البلدان-الوطنيات المجاورة لا سيما وأن مبرر الانفتاح العريض مازال قائما ويتحدى ذاك المبرر الذي نشأ على أساسه الاتحاد الاوروبي من لغة جامعة ودين وتاريخ مشترك ومتقاطع وفكر أو أفكار متقاربة واقتصاد قابل للتكامل وثقافة معوّل عليها التقريب، واحلام وآمال من الممكن أن تعود لتكون واحدة حيث تظل القضية العربية الفلسطينية الوعاء الجامع لكل الوطنيات، وللوطنية الفلسطينية وحيث تظل النضالية الوطنية الفلسطينية كوفية تلف أعناق كل أحرار الأمة بل واحرار العالم.