من الثوابت الأساسية لدى أمريكا في سياستها الخارجية، هو مبدأ: جلب المصالح لها، ودفع المفاسد عنها، ولعبة المصالح هنا لا تعرف صديق، وأمريكا لا تعترف بميثاق المحبة والصداقة، بل هي تعترف بمقدار المنفعة المتبادلة وأحادية الجانب إن اقتضت الضرورة، مهما كان يبقى تعامل تلك الدول مبني وفق سياسات مدروسة ومعدة مسبقا، وحتما هناك بدائل لتلك السياسات إذا تطلب الأمر ذلك.

السياسة ليست فن الممكن كما يتصوره البعض، ولكن السياسة فن التمكن وسلب حقوق الآخرين وهذا هو التفسير الأمريكي والصهيوني للسياسة، وأما إذا نحن اعتمدنا إن السياسة فن الممكن، فنموت ولن نتمكن من شيء، فأمريكا وإسرائيل لم ولن يسمحوا بأن يكون هناك شيء ممكن.

وهنا لا بد من القول أن لا يتوهم واهم من أن الرئيس الأمريكي هو وحده من يرسم الخطط وينفذها، بل إن السياسة الأمريكية هي سياسة مؤسسات تقوم برسمها جهات عديدة مثل الكونغرس، والسي أي أي، والبنتاغون، ومؤسسات امنية سرية وعلنية اخرى، وما على الرئيس إلا التنفيذ، ولديهم لكل مرحلة خطط وبدائل تصب في نفس الهدف.

انطلاقا من هذا المبدأ السياسي الأمريكي، تعددت وتنوعت سياساتها، فتارة استخدمت سياسة الكيل بمكيالين، وأخرى المد والجزر، أو مسك العصا من المنتصف، أو سياسة الاحتواء، ويرى بعض المراقبين إن هذه السياسات، تعبر عن ازدواجية أمريكا في المعايير، فقتل أمرء في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب بكامله مسألة فيها نظر، لكني أرى من أنها تدور في فلك المنفعة والمفسدة، وإلاّ سياستها مع دول الخليج، وإسرائيل ثابتة، لأن منفعتها باقية.

تتميز السياسة الأمريكية، بثبات الأهداف لأمد طويل، بمعنى أنها تأخذ بعدا إستراتيجيا، مع هامش محدد ومرسوم للتكتيك والمناورة، لكنه يقع ضمن إطار الأهداف ويخدم تحقيقها، فهي تلعب الأدوار بسيناريوهات مختلفة، حيث فتحت جبهة في سوريا وأخرى في العراق واليمن والسعودية، إضافة لليبيا المحترقة بذريعة الربيع العربي، ولكن المحور الرئيسي يتركز في الشرق الأوسط، وتعمل جاهدة وبكل إمكانياتها ونظرا لكون منطقة الشرق الأوسط، تحتوى على الجزء الأكبر من نفط العالم، فإنها تكتسب بعداً استراتيجياً وأهمية بالغة، في السياسات الخارجية للدول التي تعتمد على النفط المستورد وخاصة الأمريكية، كما أن هذه المنطقة محور صراع القوى الدولية، نحو السيطرة على الموارد النفطية، فضلا عن كونها تقع في قلب ممرات ومسارات التجارة الدولية.

إن لأمريكا مصالح حيوية في منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً في منطقة الخليج ولا اعتقد إن هناك امرء لا يعرف بهذه المصالح والمطامع، والأمريكان لا ينكرون ذلك، ولذلك نرى السياسة الأمريكية لا تحيد عن مصالحها بأي شكل من الأشكال وفي أي وقت من الأوقات مادام النفط موجوداً، ولكن الجديد إن بعض من دول المنطقة بدأت تفكر وبشكل جدي محاولة تأمين احتياجات بلدانها من الطاقة حال غياب النفط أو نفاذه، فسعت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات بوضع برنامج إستراتيجي مستقبلي لأجيالها القادمة التي ستحتاج حتماً إلى مصادر بديلة لهذا البترول الذي في طريقها إلى النضوب.

معهد التمويل الدولي أفاد من خلال تقرير له أن الولايات المتحدة اجتذبت ما يزيد على نصف رؤوس الأموال من دول الخليج المصدرة للنفط في السنوات الخميس الماضية وأن مشتريات الأصول المقومة بالدولار ربما تكون قد ارتفعت بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، مقدرا إجمالي إيرادات صادرات دول مجلس التعاون الخليجي الست وهي البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات بما يزيد على 1.5 تريليون دولار.

المعهد أكد أن نحو تريليون دولار منها ذهبت إلى الواردات، والباقي وهو نحو 542 مليار دولار يمثل أموالا فائضة دخلت أسواق رأس المال العالمية وأسهمت في زيادة ما بحوزة دول المجلس من أصول أجنبية، مضيفا وبشكل عام نقدر أن حصة الولايات المتحدة من الأصول المقومة بالدولار في حافظة دول مجلس التعاون الخليجي استقرت خلال الأعوام الخمسة وربما تكون قد زادت.

ويتابع أن مشتريات المستثمرين الخليجيين للأصول المقومة بالدولار من خلال طرف ثالث بلغت مستويات مرتفعة، وهناك ما يدعو للاعتقاد بأنها قد تكون ارتفعت في الأعوام القليلة الماضية ردا على تطورات ما بعد 11 أيلول، مؤكدا أن الفوائض الخارجية المجمعة لدول الخليج بلغت نحو 200 مليار دولار، أي ما يعادل ربع العجز الأمريكي.

ويقدر المعهد إجمالي الأصول الأجنبية لدى دول الخليج بنحو 1.6 تريليون دولار بالمقارنة مع الاحتياطيات بالعملة الأجنبية في الصين البالغة 1.1 تريليون دولار، قائلا إن قسما كبيرا من فوائض دول الخليج يبلغ نحو 60 مليار دولار بقي في الشرق الأوسط إذ اجتذبته عمليات الخصخصة وتحرير أسواق المال والتكامل الإقليمي.

منذ أن وضعت القواعد الأساسية، للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لم يحدث تغير مهم في مآلاتها، إذ تتغير الحكومات من حزب إلى آخر، ويتغير الرؤساء، وتتغير القيادات السياسية الأمريكية، وتتغير الظروف، ويتغير النظام الدولي، ولكن برغم كل هذه المتغيرات، تظل السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط ثابتة وراسخة، فلا المتغيرات الأمريكية الداخلية، ولا المتغيرات الشرق أوسطية، استطاعت أن تغير هذه الأهداف.

لقد ظلت السياسة الأمريكية إزاء منطقتنا وقضاياها، صامدة أمام كل المتغيرات، وحتى المتغيرات السياسية داخل أمريكا نفسها، لم يكن لها تأثيراً نوعياً بينا، في سياساتها الخارجية، وإنما كان الذي يحصل، أن تتغير الوسائل لا الأهداف، من رئيس أمريكي إلى آخر، فالسياسة الأمريكية الخارجية هي سياسة ثابتة، وأهدافها واضحة، ولم تتغير مع تغير حكامها، أو اختلاف أحزابها، معتمدين بذلك على التنظير السياسي المستقبلي للعالم، وعندما يقدمون على شيء، يبدؤون بالتمهيد له عبر تصريحات مبطنة، متكئين على جهل من يروج لبضاعتهم السياسية، أو من أتفق معهم على مبدأ العداء المشترك، أو بعض الجبناء الذين يلوذون بهم عند الشدائد، ولا يطيح أحد بالقناع الذي ترتديه أمريكا، إلا العقلاء والراسخون بالعلم.

لا نبالغ لو قلنا أن أمريكا هي الشرطي الوحيد في العالم، والازدواجية وجه من وجوه أمريكا التي تدعي أنها راعية للديمقراطية والحرية في العالم بالإضافة إلى العديد من وجوه القباحة التي يندى لها جبين الإنسانية والحضارات لما فيها من متناقضات وسلبيات كارثية على الديمقراطية نفسها وعلى المفهوم الفلسفي للإنسانية وعلى إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها من النظام العالمي الجديد، وعلى تطلعاتهم وطموحاتهم في تحقيق الأهداف والغايات النبيلة والمشروعة بما ينسجم مع المصالح الوطنية العليا لتلك الشعوب، وهذه الوجوه قد تم صنعها من قبل القوى المتنفذة وأصحاب القرار التي هي متعددة ومتدرجة من حيث المسؤولية والقوة السياسية والاقتصادية، وتستخدم الوجوه وفق متطلبات وحاجات ومتغيرات الأوضاع السياسة الأمريكية والعالمية أو مستجدات الأحداث أو الضرورات العسكرية والاقتصادية وكل ما يهدد ويؤثر على المصالح العليا والأمن القومي لها وفق رؤيتها وتخطيطها.

 

آخر الكلام:

إذا أرادت أمريكا أن تحسن صورتها في العالم وتبتعد عن لغة الغلبة للقوة وتغيير العالم بالقوة واقهار إرادة الشعوب، فعليها أن تعيد حساباتها في علاقاتها مع الشعوب والابتعاد عن كل مصادر الظلم، فان لغة الظلم هي لغة الضعفاء وليست لغة الأقوياء، فإن القوة مهما كانت قوتها هي ضعيفة أمام إرادة الشعوب، وإرادة الأمم سوف تنتصر على سيف الظلم مهما بلغ بطش الظالمين، فإن شعوب العالم المضطهدة متعطشة إلى نيل حريتها من ظلم الظالمين، لذلك فإن لغة الحوار الحضاري هي البديل الأفضل للصدام الحضاري، لان إرادة الشعوب هي المنتصرة مهما طال الزمن وسوف ينتصر الدم النازف من اجل الحرية على كل سيوف الظالمين وفي كل مكان مهما طال الزمن وهذا وعد الله.