اعداد: محمود شكر الله عباس

خاص -مجلة القدس العدد السنوي 333

لم يتجاوز عمره السابعة عشرة، لكن ايماناً عميقاً سكنه فكتب رسالة من كلمات قليلة: "أخي نبيل، سلامي لأهلك ولأمي، أرجوك لا تسأل عني. أنا بخير. سأعود". وضع الرسالة على مكتب شقيقه في كراكاس غرب بيروت، وغادر في 25 آذار عام 1968 الى فلسطين.

لم يعد خليل عز الدين الجمل، مشياً على الاقدام إنما محمولاً على الاكتاف شهيداً، وفي استقباله مئات الآلاف. ليشكل استشهاد أول لبناني في صفوف الثورة الفلسطينية بداية مرحلة جديدة في لبنان ولا سيما في التعاطي مع القضية المركزية، وبعد الجنازة المهيبة ليس كما قبلها، فقد أصبح الجمل رمزاً يحتذى عند الشباب اللبناني الذي انضم قوافل في حركة فتح وبقية الفصائل الفلسطينية والمقاتلة ضد الاحتلال ولتحرير فلسطين.

لم يكن الشارع اللبناني قد حسم خياره بالنسبة للثورة الفلسطينية وكيفية دعمها، خصوصاً وأن "المكتب الثاني" كان يضيق الخناق على المخيمات والشباب الفلسطيني واللبناني الداعم للقضية الفلسطينية. بعدما ضجت الصحافة اللبنانية بـ"الشهيد الأول" انطلقت تظاهرات مؤيدة للعمل الفدائي في بيروت، صيدا، صور، وطرابلس؛ ما اعطى غطاء شعبياً لتواجد المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني حيث أطلق عليها فيما بعد "فتح لاند".

 

فدائي العاصفة

التفت الكوفية حول عنقه، وتدلت على كتفيه وحمل بندقيته وانتظر ساعة الصفر. وعند الساعة التاسعة مساءً من ليل العاشر من نيسان/ ابريل عام 1968، انطلقت وحدات الاستطلاع والمراقبة الفدائية من منطقة تل الاربعين في الاردن. الجميع كان يرصد مرور قوات العدو الاسرائيلي الى المنطقة خصوصا وانها اقامت جسراً حديدياً متحركاً في منطقة الاغوار لنقل عربات الجند والدبابات. في تلك اللحظات أنزلت طائرة هليكوبتر عشرات المظليين في المكان نفسه، وعند اختراق القوات الغازية للاراضي الاردنية كان فدائيو العاصفة بانتظارهم في كمين محكم، وكان الشهيد خليل عز الدين الجمل، أحد الفدائيين.

استطاعت قوات "العاصفة" الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" من تجنيد الشهيد الجمل في لبنان، وتم نقله الى أكثر من معسكر تدريبي ومن ثم طلب نقله الى مكان المواجهة والمعارك، فكان في الخطوط الامامية عند الحدود الاردنية الفلسطينية. ونال ما أراد: اشتبك مع جنود الاحتلال بعد محاصرته لقوات العدو مع اخوانه من قوات "العاصفة" وانهالوا عليهم بنيران رشاشاتهم وقنابلهم اليدوية. كانت معركة حامية الوطيس خاضها الجمل ورفقائه بحماسة شديدة. وكانت المحصلة قتل أكثر من عشرة جنود اسرائيليين وجرح عشرات المظليين والمشاة. وعند انسحاب العدو الى الاراضي الفلسطينية المحتلة لم يتراجع الفدائيون الفلسطينيون ومنهم الجمل، ولاحقوهم مع تقهقرهم الى عمق الاراضي الفلسطينية. وصل المقاتلون الى نقطة متقدمة من خط وقف إطلاق النار، حيث كثر عدد الاسناد للعدو، فأمر قائد المجموعة اخوانه بالانسحاب إلى مواقعهم بعدما أوقعوا في صفوف العدو 15 جندياً. واستمرت الرماية داخل الأراضي المحتلة، وبينما كان خليل يحمي انسحاب رفاقه وتراجعهم إلى مواقعهم، أصابت قذيفة مضادة للدروع كتف الجمل، ومع ذلك استمر في اطلاق النار حتى ارتقى شهيداً في أرض المعركة، واستطاعت المجموعة من سحب جثمانه الى الأراضي الأردنية.

 

الشهيد يشهد

نقلت قوات "العاصفة" جثمان الجمل، الى بيروت ليتم تشييعه. وكان في صحبة الجثمان رفاق السلاح الذين تحدثوا عن اقدام الشهيد وكبريائه وابائه ومناقبيته العظمية. في السابع والعشرين من نيسان/ ابريل 1968 مشى لبنان بأسره في موكب الشهيد. الشهيد في استشهاده شهد على اجتماع اللبنانيين بكل أطيافهم واحزابهم في الجنازة مع قرع اجراس الكنائس واصوات الأذان والتكبير. بدأ الموكب الكبير من شرق لبنان حيث وصل موكب الجنازة إلى المصنع عند الحدود اللبنانية السورية في تمام السادسة عصراً ليخترق آلاف المواطنين وفدائيي "العاصفة". اصطفت الجموع على اطراف الطريق من البقاع اللبناني الى العاصمة بيروت حيث اقيمت الصلاة على الجثمان في المسجد العمري الكبير في العاصمة،  ومن الجامع العمري انتقل الموكب إلى مقبرة الشهداء.

كانت جنازة مهيبة للشهيد، بثت الروح الوطنية في الشعب اللبناني خصوصاً مع كتابات هامة نقلتها الصحافة اللبنانية، والهتافات التي اطلقها المشيعون واللافتات التي كتبت عبارات كثيرة منها: "لبيك يا فلسطين"، "تعيش العروبة"، "على دربك يا خليل". تسابقت آلاف الأيادي شاركت في حمل النعش، من منطقة رياض الصلح إلى الباشورة والبسطة التحتا والفوقا، ومن ثم المزرعة. واحتشد على جانبي الطريق المواطنون ووقفوا على الشرفات يهتفون ويصفقون للشهيد وللموكب الذي امتد من المزرعة إلى رياض الصلح، لتنضم بعد ذلك إلى الموكب تظاهرة حاشدة نظمها طلاب الجامعة الأميركية، انطلقت من رأس بيروت عبر شارع فردان، فجامعة بيروت العربية.

كان الحدث صدمة للبنان الرسمي والشعبي، فأجمع اللبنانيون على أهمية الشهيد وانتمائه الوطني، فشاركت الجموع التي لا تربطها بالشهيد أي صلة. وشارك أصدقاء وزملاء الدراسة في الجنازة اضافة الى عائلته وأقربائه وسياسيون من جميع الاتجاهات الحزبية والفكرية، فكان أكثر من مئة الف شخص في وداع الشهيد الجمل.

 

من المطالعة الى الاستطلاع

عُرف الشهيد  بذكائه وتفوقه العلمي، ويصفه من عرفه بالوسامة والاناقة والاتزان والهدوء والخجل والصمت الرهيب. كان شاباً مفعماً بالحياة فقد تلقى علومه الابتدائية في المدرسة العصرية في بيروت، وأكمل دراسته التكميلية في مدرسة المخلص المسائية، حيث كان يعمل نهاراً ويدرس ليلاً. وتميز خليل، بحبه المفرط للمطالعة، خصوصاً بحكم عمله مع أخيه الأكبر نبيل، حيث كان دائم الاطلاع على كافة الصحف والمجلات اللبنانية والعربية، ليتمكن بعد ذلك من تغذية روحه وشغفه بالمطالعة والمعرفة، من أجل تكوين مخزون ثقافي حول القضايا المهمة، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية تحديداً. تأثر كثيرا بما قرأ وسمع عن نكبة الشعب الفلسطيني وأصبحت الثورة هي المتنفس لمحو الظلم واقامة العدل وتحرير الارض، فكان مطالعاً طليعياً فأصبح مستطلعاً لخطوط العدو والاشبتاك العسكري في الخطوط الامامية.

 

القيمة العربية

دخل الشهيد الجمل، كل البيوت والقلوب العربية، وأثبت أن فلسطين أرض عربية والقضية لها بعد قومي عربي، فوجه  الرئيس جمال عبد الناصر تحية إلى الشهيد الجمل في كلمة ألقاها في نيسان/أبريل من العام 1968: "اللي عنده 17 سنة و18 سنة، واللي بيقاتلوا في داخل إسرائيل يثبتوا أيضاً إن احنا ندّ، ويثبتوا أن الانسان العربي قادر على دفع التحدي. الشاب اللبناني اللي أخد سلاحه وطلع من لبنان وترك رسالة لأهله قالهم أنا ماشي ومش حا غيب.. وحا ارجعلكم، وطلع ودخل مع قوات العاصفة إلى إسرائيل علشان يقاتل في سبيل أرضه ومات ورجعوه امبارح إلى لبنان.. يثبت أن الأمة العربية كلها بكل أبنائها قادرة على تحدي هذا العدوان".

حديث عبد الناصر، عن الشهيد جعله قدوة ومثلاً أعلى للشباب العربي الذي انضم الى صفوف الثورة وهذا ما أكده رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رشيد كرامي في اسبوع الشهيد الجمل في جامع المنصوري في طرابلس: "لقد مات خليل باسم لبنان، ودفاعاً عن قضية العرب الأولى، قضية فلسطين.. هو الشهيد في سبيل القضية التي تشد العرب إلى بعضهم البعض، ولبنان الذي شارك مشاركة كلية في المعركة القومية، أعطى بذلك دليلاً قاطعا على وطنية شعبه والإيمان الراسخ بمبادئه وأهدافه التي هي مبادئ وأهداف العرب كافة".

ولأن الشهيد الجمل وحّد لبنان بكل أحزابه وطوائفه، قال عنه الرئيس الراحل بيار الجميل: "إن الكتائبيين في القرى والمدن الكائنة على الطريق من المصنع إلى بيروت، تشارك في استقبال جثمان الفدائي، وحمله على الأكتاف لدى وصوله إلى كل قرية، ونثر العطور على نعشه، وقرع أجراس الكنائس، تقديرا لبطولة هذا الفتى، وإعرابا عن تقدير لبنان لاستشهاده". وكذلك نعاه حزب الوطنيين الأحرار قائلاً: "كأنما كتب على لبنان أن يكون دائما في طليعة الركب العربي، يذود عن القضايا العربية ويخص فلسطين بالقسط الأوفى من الاهتمام والتضحيات، فيؤدي واحد من أبنائه البررة الميامين فدية الدم على أرض الوطن السليب.. خليل عز الدين الجمل حمل في عروقه الدم اللبناني إلى فلسطين، ليروي به تربة فلسطين العربية الوجه واللسان، وليثبت لجميع الزعماء العرب أن معركة فلسطين الحقيقية يجب أن تدور مع الغاصبين على أرض فلسطين لتكون كما يجب أن تكون".

وكتب رئيس تحرير صحيفة "النهار" غسان تويني، في 27 نيسان/أبريل 1968: "من زمان لم يمت منا شهيد، شهيد حقيقي، شاب يُحلّ الوطن في مقام أعلى من الحياة. من زمان لم يعتبر شاب منا أن ثمة ما هو أثمن من الحياة، هو فداء الحياة. من زمان لم يكتب لنا أحد بدمه رسالة حرية. خليل عز الدين الجمل، تعود إلينا ولم نعرفك. كأنك ما متّ إلاّ لتعرفنا بما فينا. بأن فينا إرادة الحق حتى الموت والإيمان حتى الشهادة".

وعقّب جان عبيد في 25 نيسان/ أبريل 1968  في مجلة "الصياد" كاتباً: "ربما كان خليل عز الدين الجمل، أول لبناني يسقي بدمه وحياته تربة الفداء الفلسطيني، ولكنه ليس حتماً اللبناني الوحيد الذي تتطلع نفسه وكبرياؤه وكرامته إلى أرض الشهادة. لقد استشهد خليل الجمل ولم يمت. استشهد حيث اعتقد ان هناك الحياة. الحياة لروحه، لفكره، الحياة لشعبه، لكرامته، لقضيته. لم يعد الشاب البيروتي الشجاع ملكا لعائلة الجمل. لقد أصبح ملكاً للبنان وللأمة العربية كلها".

 

أغنية الشهيد

نظم شعراء لبنانيون وعرب قصائد تشيد ببطولة خليل الجمل وتضحيته، منها قصيدة عبد السلام النابلسي كتبها تحية للشهيد البطل في 6 أيار/مايو 1968، ليلحنها الفنان رياض البندك، وتغنيها الفنانة نجاح سلام في جامعة بيروت العربية، في 27 أيار/مايو 1968. وتقول الأغنية: ما نبت الشعر في أهابه/ وما تخطى إلى شبابه/ كان في الحياة إلى جواري/ ليتني استشهدت إلى جواره/ هيا اقرعوا الاجراس في لبنان/ واحتشدوا/ هيا إلى المآذن يا شيوخ محمد/ وأثيروا في المواطن هزة/ وتنادوا بالتآخي بينكم/ هيا اشعلوا جذوة من بني غسان/ وأعيدوا عهدا من بني قحطان/ تحيوا فيها ميت الوجدان/ وصِلوا الإنجيل بالقرآن..