خاص مجلة القدس العدد 332 تشرين ثاني 2016
تحقيق: وسام خليفة

جعلت شخصيةُ "أبو عمار" الوطنية والكاريزما التي كان يتحلّى بها منه شخصيةً ثوريةً عالميةً محبوبةً تثير فضولَ العديد من الناس حول حياة هذا الرجل والأماكن التي مرَّ بها، ولعلَّ من أبرز هذه الأماكن مقر ياسر عرفات في تونس الذي شهد على أهم فصول الثورة الفلسطينية ومحطات حياة الرئيس الشهيد. مجلة "القدس" التقت مدير مقر ياسر عرفات في تونس العميد عبدالرحيم حسين للاطلاع على تفاصيل وتاريخ هذا المقر الذي تحوّل لمزارٍ مفتوحٍ أمام عموم الناس.

مزارٌ لمحبّي ياسر عرفات
كان العميد عبدالرحيم حسين مرافقاً للشهيد ياسر عرفات منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعاش معه حصار بيروت والخروج إلى تونس، وهو يشغل اليوم منصب مدير مقر ياسر عرفات في العاصمة تونس. بسؤاله عن البيت ومحتوياته والفترة التي قضاها أبو عمار فيه، يقول العميد حسين: "البيت عبارة عن مبنى صغير من طابقين، محاطٌ بمساحة صغيرة من الأرض. وقد انتقل أبو عمار لهذا المقر بعد أن حاولت إسرائيل اغتياله هو وقيادات فلسطينية بقصفِ مقره السابق الذي كان يقع في منطقة حمام الشط حيث كان يقيم في فندق يُسمّى فندق سلوى، موضحاً أنَّ "سبب اختيار ياسر عرفات لتونس مكاناً للإقامة هو كونها بلداً مضيافاً لنا كفلسطينيين حيثُ كان للمنظّمة حرية الحركة والاجتماع، وقد كان البيت بمثابة مقر قيادة تخرج منه القرارت المصيرية".
ويضيف: "استأجرنا المقر في العام 1985، وهو يحتوي على مكتب الشهيد الرئيس ياسر عرفات، وقاعة اجتماعات، ومكاتب سكرتاريا، وأيضًا كان مقر إقامته. وقد شهد هذا المقر أهمّ الاجتماعات من مجلس وطني إلى لجنة مركزية والقيادة العسكرية، ومن هذا المقر عاد أبو عمار الى فلسطين، ومعظم القرارات المصيرية في تلك المرحلة خرجت منه، وقد عاد أبو عمار الى تونس عدة مرات بعد أن عاد للوطن العام 1994، وكعادة أبو عمار لم يحب القصور والبيوت الفارهة، بل فضَّل هذا البيت، الذي نسميه بيت الشعب الفلسطيني، ولحبِّ ابو عمار لهذا البيت ترك فيه بعض الملابس في حال عاد إليه، وقد اختاره ليكون بالقرب من الناس وليستطيعوا الوصول إليه. وهذا البيت يشهد على روح الأُبوّة والاخوّة التي كان يتحلّى بها ياسر عرفات حيث كان لا يجلس على طاولة الطعام إلا عندما يتأكّد بأنَّ الجميع قد تناولوا طعامهم، ومَن لم يأكل يأخذه معه ليأكل على الطاولة.. هذه البساطة والتواضع التي جعلتنا نحبّه، ولم يكن أبو عمار يرد أحداً يدخل بابه، ومن دخل إليه مهمومًا خرج من عنده سعيدًا".
ويتابع: "بعد استشهاد أبو عمار اتُخِذ القرار بترتيب البيت وإعداده كي يكون مزارًا لكل مَن أحبَّ ياسر عرفات، وفي العام 2011 تولّيتُ مهمّة إدارة البيت، وبدأتُ مهمّتي مع الطاقم في استقبال محبّي أبو عمار، ولا أبالغ إن قلتُ انه لم يدخل أي وفد فلسطيني تونس بدون أن يزور البيت وخصوصًا القيادات الفلسطينية التي كانت تأتي لأداء مهمات عمل في تونس، إلى جانب الأفراد والفنانين والشخصيات المرموقة التي أحبَّت عرفات. هذا البيت مفتوحٌ لكل الناس، ونقوم بتعريفهم على مرافق البيت، وكيف كان أبو عمار يقضي وقته فيه، وحفاظًا منا على إرث ابو عمار تُركَ المكان كما تركه الشهيد بالقرطاسية الموجودة على مكتبه وأغراض المكتب وحتى الشراشف والوسائد بقيت على حالتها بدون غسيل تحوي رائحته، وكافة أدوات ابو عمار بقيت في مكانها كما تركها قبل مغادرته تونس".


ومركزٌ للمناسبات الوطنية
يشير العميد عبدالرحيم حسين إلى أنَّ "البيت لا يقتصر على كونه مزاراً بل يُعدّ أيضاً مركزاً لإقامة المناسبات الوطنية بشكل دوري حيث يتم إحياء ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات وإضاءة شعلة الانطلاقة، والعديد من المناسبات الأخرى في البيت كون أبو عمار من مفجّري الثورة الفلسطينية، وقد عاش فصلاً طويلاً من النضال والمطاردة في تاريخه فداءً لفلسطين، وتحضر هذه المناسبات وفودٌ رسمية فلسطينية وصديقة لفلسطين، كما يحضر العديد من نشطاء المجتمع المدني، وتتخلّل ذلك إضاءةٌ على حياة أبو عمار، وتاريخه، وتتم الدعوات في هذه المناسبات عن طريق السفارة الفلسطينية في تونس، وهناك مشاركات كبيرة لدرجة أنَّ البيت لا يتّسع لعدد الزائرين في المناسبات المهمة".
ويضيف: "هذا البيت مميَّز في جميع مرافقه بشكل عام كون أبو عمار سكن فيه، وليس هناك من مرفق أهم منه، فقد ترك الشهيد فيه بصمته وذكريات الثورة الفلسطينية. هذا البيت محبَّب للناس بكل تفاصيله، وهو محطُّ اهتمامهم، وهو يثير الفضول حول المكان الذي عاش وعمل فيه الشهيد لسنوات عديدة في تونس".
ويردف: "يفتح المقر أبوابه 24 ساعة في اليوم، وهناك طاقم موجود بشكل دائم لاستقبال الضيوف، وهو لا يغلق في وجه أحد لأنَّ هذا المكان بيت الشعب الفلسطيني، ومن حق أي شخص أن يزوره. وأذكر العديد من المرات حيث كنا ننهض من النوم بسبب حضور ضيوف يودون التعرف على المكان، وكنا نستقبلهم بكل حُبٍّ ونعرّفهم على البيت، مع الإشارة إلى أنَّ الزيارات بالطبع تتم بالتواصل مع سفارة دولة فلسطين في تونس".
وأثناء الحديث مع العميد حسين استذكر قصةً عن ابو عمار حيث قال: "أذكر أنَّ استضافة ابو عمار في تونس كانت في قصر يُدعى قصر السعادة جُهِّزَ ليكون مقر إقامته، ولكن ما إن حلَّ المساء حتى ذهب أبو عمار الى معسكر فلسطيني يسمّى وادي الزرقاء حيث ذهب لينام ويقضي الوقت مع جنود الثورة الفلسطينية بدلاً من القصور الفارهة".
مَن يدخل هذا البيت يشعر بعظمة تسكن جدرانه كونه مكان إقامة رمز من رموز الشعب الفلسطيني ومقرًّا شهدَ على العديد من القرارات المصيرية في تاريخه، ومَن يتجوّل في غُرَفه يتعرّف على رئيس عاش بكل تواضع ولم يهتم أبدًا أين يعيش طالما أن وطنه وشعبه يسكنون في داخله. أغراضه البسيطة وأقلامه التي ما زالت في مكانها كما تركها ما تزال تروي تاريخًا وتؤكّد أنَّ رجلاً صدق الله فصدقه شهيداً.