خاص مجلة القدس العدد 332 تشرين ثاني 2016
تحقيق: نادرة سرحان

أطفالنا، جيل اليوم، أبناء الحاضر، مَن نضع الحمل عليهم لبناء مستقبل مزهر، مَن نرى فيهم ثروة ونصراً لتحرير بلد قابع تحت سلطة احتلال غاشم. أطفالنا براعم صغيرة ما أن نمت حتى داس عليها الزمان فاضمحلّت بدون أن تزهر. فأين هُم من كل ذلك؟

تلمحهم يومياً في الشوارع وقد رسمَ الزمان على وجوههم ألف حكاية وحكاية. تستنتج خيانة الزمان لهم من خلال الآثار والندوب المطبوعة على أجسادهم النحيلة التي لم تنضج بعد لمواجهة كل صعوبات الحياة الكبيرة. وجوهٌ موشّحة بسواد محرّكات السيارات، أيادٍ متشقّقة من غسل صحون المطاعم، ثيابٌ رثّة مزّقها تعب ساعات عمل طويلة. أطفالٌ كُتِب عليهم الشقاء سواء أكان باختيارهم أو رغماً عنهم وكانوا الضحية، ضحيّة مجتمعات فقيرة وظروف اجتماعيّة وأُسريّة صعبة وتربية غير سليمة.
تراهم في كل مكان تذهب إليه، كالأسواق والمطاعم والمحطات وفي أماكن جمع القمامة وفي أي مكان يمكن أن يوفِّر مصدر دخل مهما كان زهيدًا. لقد قرَّر هؤلاء الأطفال مواجهة الحياة بمفردهم بعد أن فقدوا الدفء العائلي والحنان الأُسري والمستقبل المشرق لسبب أو لآخر، وخرجوا من بيوتهم ليصبح العمل مأوى ومسكنًا لهم، حاملين همومهم بعيدًا عن حياة لا يثقون بها.ذاك يتصارع هو والآلة الأكبر منه حجماً لكي ينجز العمل والعرق يتصبّب من جبينه، والآخر يرتجف خوفًا ويريد إنجاز عمله قبل مجيء رئيس العمل وإلّا حُرِم من نصف راتبه. أمَّا الأخير فيُستغَل خارج إطار العمل بطريقة تجعله أقرب إلى خادم أكثر منه إلى عامل، فهو بحكم الأمر الواقع مجبَرٌ على القبول بهذه المذلة لأنه بأمّس الحاجة إلى هذا العمل.
أطفالٌ حُرِموا من نيل نصيبهم من التعليم كأقرانهم، ومن التمتّع بأجمل مرحلة عمرية، مرحلة الطفولة، ومن تحقيق أحلامهم التي رسموها في صغرهم. أطفالٌ أجبروا على العمل بسبب ظروف حياتية قاهرة أرغمتهم على فعل ما لا طاقة لهم به. فالوضع الاقتصادي سيء جدًا لا سيما على الفلسطيني الذي يعاني مرارة اللجوء، ومن تقليصات الأونروا الجائرة، ومن بطالة تفتك بأبنائه. لذلك هناك نسبة كبيرة من الأطفال الفلسطينيين متسرّبون من المدارس ويعملون وهم تحت السن القانوني للعمل لأنّهم باختصار محكومون بالحاجة. فماذا تفعل الأُسرة التي ليس لها معيل يسدُّ رمق عيشها وتوقها للحياة؟ بكل بساطة ستُخرِج ابنها من المدرسة وتدفعه نحو العمل لمساندتها. وماذا يفعل الطفل الذي تلقى أبشع أنواع الاضطهاد والمعاملة السيّئة من معلميه؟ بالطبع سيخرج من المدرسة ولن يعود لها مجدداً حتى ولو كلّفه الأمر حياته، وماذا سيفعل الطفل الذي وصل إلى مرحلة دراسية معيّنة ولم يستطع متابعة دراسته لأن قدراته لم تؤهّله؟ سيخرج من المدرسة وسيعمل في أي "صنعة" تؤمّن له دخلاً زهيداً لأنه لم يجد من يوجّهه ويضعه على المسار الصحيح.
ولعلَّ أكبر مشكلة تواجه هؤلاء الأطفال في عملهم هي تلك المتمثّلة بالأجور، فمعظم أصحاب المحال يفضلون تشغيل الأطفال لإعطائهم أجوراً متدنية ولأنّهم يعملون لساعات طويلة، فهم يعلمون مسبقاً بأنَّ الطفل لن يقوى ولن يجرؤ على المطالبة بحقوقه. كذلك الأمر بالنسبة للأهل الذي يسيطر الجشع على أبصارهم ويدفعهم إلى نسيان حقوق طفلهم المشروعة بالحياة، غير آبهين لا لصحته ولا لنفسيته التي تتأثّر بحكم الظروف التي يعيشها. فسلبُ كرامة وبراءة الطفل تسوغ لهم فعل القبائح. فهل نحن مستعدون لذلك؟
عمالةٌ تفتك بأطفالنا لا سيما محمود، وربيع، وأيمن، وعمر، وحنان خمسة أسماء مستعارة لأطفال رووا تجاربهم مع العمل الشاق.
محمود وعمله في النّجارة
يُخيَّل إليك وأنت تُطالع تفاصيل وجهه بأنّك تخاطب كهلاً قد غزاه الكبر ولكنك سرعان ما تدرك أن مَن أمامك ليس سوى طفل صغير أرهقته مرارة الأيام وجعلته يبدو أكبر من سنه.
يقول محمود: "تركتُ المدرسة وأنا في العاشرة من عمري، كنتُ حينها في الصف الرابع. في بداية دراستي كنت أواظب على الدراسة وأنجح إلى أن أصبحتُ أنا وابن عمي في الصف نفسه. ابن عمي لم يكن يدرس للامتحانات وكان مشاغباً جداً، فعندما نكون في قاعة الامتحان كان يطلب ورقة امتحاني لكي يغش عنها، وكنتُ أعطيه إياها خوفًا منه، وعندما ينتهي كان يمزق لي ورقتي. فعلها مرات عديدة إلى أن اشتكيت للمدير لكنه رفض أن يصدقني. رويداً رويداً تراجع تحصيلي الدراسي إلى أن رسبت وطُرِدتُ من المدرسة. لعلَّ هذا أحد أسباب تركي للمدرسة، لكنه لم يكن السبب الفعلي". يقولها مطوطئًا رأسه خجلاً: "في كثير من الأحيان كنت أتغيَّب عن المدرسة لأسباب مادية، فلا لباس يحميني من برودة الطقس ولا حذاء يقيني من عثرات الطريق ولا مصروف أقتات به ما "يبلّ ريقي". فأهلي لم يكن لديهم المال الكافي لكي يشتروا لي كسوة كما أقراني، هذا هو السبب الأكبر الذي دفعني إلى ترك المدرسة".
وبسؤاله عن العمل الذي يقوم به الآن وعن مدى صعوبته أجاب: "أعمل في نجارة الخشب. أذهب الساعة السادسة صباحاً وأعود الساعة الرابعة عصرًا، وأتقاضى 15 ألف ل.ل في اليوم الواحد لقاء تعبي طوال النهار. مهنة النّجارة صعبة جدًا وخطرة بالنسبة إلى طفل وخاصةً لي كوني مصاباً بالربو، فأعمال القص ونقل الأخشاب صعبة على الكبار فما بالك بالأطفال. أبقى واقفًا طوال النهار لا حول لي ولا قوة ونادرًا ما أجلس لأرتاح. ليتني أعود إلى المدرسة وأجلس على مقاعدها.. الآن وأنا عمري 12 عاماً أشعر بثقل أحمله على ظهري، ولا أعلم ما تخبّئه لي الأيام من هَم وتعب. كان بودي أن أكمل دراستي ولكن كل الظروف عاندتني".
تعنيف أودى بربيع إلى الهاوية
ربيع، طفلٌ كان ضحية عنف مدرسي أتعب نفسيته ودمَّر كيانه، عنفٌ دفعه إلى الخروج من المدرسة تاركًا إياها إلى مَن يصفون أنفسهم بمطبّقي مفهومي التربية والتعليم. فبدلاً من أن تكون المدرسة بالنسبة له ملجأً آمنًا أصبحت كالوحش المفزِع يريد الهروب منها بأي طريقة.
يحدثنا ربيع بانفعال يتخلّله حقد دفين على المدرسة التي كانت السبب في تدميره قائلاً: "دخلتُ المدرسة وكلي أملٌ بأن أكون إنساناً مهمًّا في هذا المجتمع، وصاحب مستقبل مزهر أخدم به قضيتي، ولكنّني تعرضتُ لأبشع أنواع التعنيف من لفظي إلى جسدي، فدائمًا ما كان الأساتذة يصفونني بالفاشل إلى أن طُبِعَت هذه الكلمة في ذهني. استمريتُ بمتابعة دراستي إلى أن جاء يوم وضربني فيه المدير على يدَي ما أدّى لتورُّمهما، ودخلتُ على اثر ذلك للمستشفى لتلقي العلاج. فالمدير كان يغضُّ نظره عن الجميع ويقوم بضربي أنا وحدي في حال المشاغبة بالصف. اشتكى والدي لمدير الأونروا لكنه لم يفعل شيئًا فلا حياة لمن تنادي، مما دفع والدي إلى إخراجي من المدرسة وأنا في التاسعة من عمري".
وبسؤاله عن نوعية العمل الذي يقوم به أجاب:"أتنقّل بين أعمال كثيرة، عملتُ ماسحاً للأحذية، لكن هذا الأمر لم يدم طويلا، إذ لم أستطع تحمُّل نظرات الاستحقار التي أتلقاها من الناس يومياً، لقد كانت نظرات قاتلة لأبعد حدود. ثُمَّ عملتُ أجيراً عند بائع لحوم أنظّف المكان، لكنني تركته أيضاً لأنَّ البائع أغلق محله، والآن أنا عاطل من العمل، أنظرُ كل يوم إلى أبي الذي يصارع الحياة من أجل تأمين ولو فلس واحد، أراقبه يوميًّا وهو يفكر في كل دقيقة ببيع إحدى كليتيه، لكي يؤمن لنا ما نقتات به".
أيمن وسعيه الدائم للعودة إلى المدرسة
"تركتُ المدرسة منذ سنتين كنتُ حينها في صف السابع وأبلغ من العمر 12 عاماً. كان تحصيلي الدراسي ضعيفًا بعض الشيء، ولم يحفّزني محيطي من المدرسة والأهل والأصدقاء على المثابرة بل شجعوني على ترك المدرسة. والآن أعملُ في تمديدات الكهرباء،حيثُ أذهب الساعة العاشرة صباحًا وأعود الساعة السادسة مساءً، مهمّتي في العمل هي ثقب الحيطان من أجل تمديد الأسلاك الكهربائية، باختصار هو عملٌ شاق جدًا يسرق مني فرحتي بالحياة"، يقول أيمن حول قصته مع ترك الدراسة والتوجه للعمل.
ويضيف: "أكثر ما يؤلمني في عملي هو رؤيتي لآباء مع أولادهم أثناء عودتهم من المدارس، أتمنى لو أنني مكانهم، فالجلوس على مقاعد الدراسة أفضل بكثير مما أمرُّ به الآن. فاليوم أنا لا أملك حتى وقتاً كافياً للنوم، وقد دفعتني قلة راحتي وشعوري بأني بدون مستقبل لأن أحاول جاهداً العودة للمدرسة بأي طريقة ولو حتى بالوساطة، وأهلي يعملون الآن على هذا الموضوع بعد أن أدركوا حجم خطئهم، فالمدرسة أفضل بكثير من عمل لا يحترمني كطفل، ولا أشعر به بطفولتي".
عمر وتحمله المسؤولية قبل أوانه
تختلف قصة عمر عن غيره من الأطفال. فعمر طفل فلسطيني كان يقطن مع عائلته في سوريا إلى أن سافر والده واستشهد في غزو العراق العام 2003 تاركاً وراءه عمر ابن الثلاثة أعوام وأخواته الأربعة برفقة والدتهم. عاش عمر وعائلته مع زوج أخته الكبرى الذي كان يصرف عليهم حتى اندلاع الأزمة السورية العام 2011، ما دفع شقيقته وصهره لترك سوريا والانتقال إلى الأردن قسرًا، فبقي عمر وعائلته في سوريا يتصارعون هم والظروف إلى أن اصطحبتهم والدتهم إلى لبنان علّهم يجدون فرصة للعيش.
يقول عمر: "جئنا إلى لبنان العام 2011 وكان عمري حينها 11 عامًا، لم يكن هناك أي مصدر دخل لأسرتي سوى ما نتلقّاه من الجمعيات بحكم وضعنا كنازحين من سوريا، لكن هذا الدخل لم يكن ليسد إيجار غرفة نسكن بها، لذا اضطررت لترك الدراسة ودخول ميدان العمل، فمستقبل عائلتي أهم من مستقبلي. وها أنا اليوم أعمل في محل لبيع الدجاج، أتعب نعم، لكنّ هذا أفضل من شفقة وإحسان من الناس، فأنا يمكنني الاعتماد على نفسي بدون مساعدة أي أحد. وعائلتي هي مسؤوليتي التي لن أتخلّى عنها مهما واجهت من همِّ وتعب، فما مررت به كان كفيلاً بأن يصقل شخصيتي لأتحدى بها هذه الحياة".
زواج القاصرات دفعها نحو العمل
حنان الأنثى الوحيدة التي تجرّأت على البوح بقصتها من دون أن تخاف من مجتمع يحصر الأنثى بمهمة الزواج والإنجاب، أرادت أن تنطق وتحدث عن تجربتها علّها توقظ عيوناً غافية وآذاناً صمّاء لم تسعفها يومًا بأن تكون أنثى ناجحة كما أرادت منذ الصغر.
تقول حنان ابنة الـ17 عامًا:"منذ صغري وأنا أتمنّى بأن أصبح معلمة، لكن ما أن وصلت لعمر الرابعة عشرة حتى سُحِق حلمي من قِبَل أهلي وتبدَّد في الهواء، ففي هذا السن بالتحديد تقدّم ابن عمي لخطبتي، وأهلي وافقوا بدون أن يستشيروني حتى، حاولت الرفض لكن صفعةً من أبي كانت كفيلةً بأن تنسيني حقي في الحياة. أخرجني أبي من المدرسة باعتبار أنني سأنتقل للعيش في منزل مع زوجي، وبأنّ الفتاة مهما تعلّمتُ لا بد لها من الرجوع إلى منزل زوجها، فمهمتها تقتصر على الطبخ وتربية الأولاد. مرت سنة على خطبتي، قضيت فيها أتعس أيام حياتي. ففي الوقت الذي كنتُ من المفترض أن أعيش فيه طفولتي، كنت حبيسة المنزل.. كل شيء ممنوع. استمريتُ على هذه الحال إلى أن فُسِخَت الخطبة. حاولت من جديد أن أعود إلى المدرسة لكن أبي لم يوافق ظنًّا منه أني نلتُ ما يكفي من التعليم. ومرة أخرى وافق على خطبتي لأحدهم رغما عني أيضاً، استمرت الخطبة ستة أشهر، ومن ثُمَّ فسخت لأسباب معينة. بعدها عشتُ حالة من العزلة إلى أن دخلت ميدان العمل الذي لم أجد غيره سبيلاً".
وبسؤال حنان عن نوعية العمل الذي تقوم به، وعن الصعوبات التي تواجهها، قالت:" أعمل في معمل يصنع الحلويات على المكنات المختلفة، أقضي نهاري كله في العمل المتعب والشاق، أتقاضى راتب 200 ألف ل.ل شهرياً. أواجه صعوبات جمّة في العمل من ساعات عمل طويلة ومعاملة سيئة واستغلال واضح من قِبَل بعض الأشخاص، ولكن العمل بهذه الصعوبات أفضل لي من البقاء في منزل يراني عبئاً عليه، فأنا أُحصّل مصروفي بنفسي، لكنني آسفةٌ على حلم لم أستطع تحقيقه، فبدلاً من أن أصبح معلّمة وأعلم الأولاد الحروف، ها أنا اليوم لا أعرف كيف أفكك الكلمة".
بِئسَ الحياة التي لا تقدِّر رغبة طفل يحلم، رغبة طفل يطمح بأن يصبح ذا شأن في المستقبل. بِئسَ المجتمع الذي يتأفّف من أطفال يجولون الشوارع وأماكن العمل المختلفة بحثا عن لقمة العيش. بِئسَ أولئك الذين ينظرون إلى الأطفال الذين جنت عليهم الحياة بنظرة فوقية وكأن الطفل كائنٌ متسوّل يريد أن ينقض عليهم. بِئسَ الأهل الذين لا يقدرون مشاعر طفلهم التي تهترئ بعمل يرميه بين جحافل الحياة. نِعم الأطفال أطفالنا، المكافحون الصغار، ثروة بلادنا الضائعة، ثروة فلسطين المنكوبة.