خاص مجلة القدس العدد 332 تشرين ثاني 2016
تحقيق: مصطفى ابو حرب


لم يكن ياسر عرفات ذلك الرجل العادي الذي مرَّ في حقبة زمنية عابرة، وإنّما كان ذلك القائد الذي تخطّى حدود الجغرافيا واخترق التاريخ كي يكون الرجل الذي لن يتكرّر في هذه الأُمّة في أمد قريب، نتذكّره من خلال رجال عايشوه ورأوا فيه مرآة فلسطين.

ياسر عرفات قائدٌ فذٌّ قلَّ نظيره
ينوّه رئيس بلدية الميناء في طرابلس عبدالقادر علم الدين لعمق وقدم العلاقة بين الفلسطينيين واللبنانيين ولا سيما في طرابلس، حيثُ يقول: "نصف عدد الطلاب في الصف الذي كنا ندرس فيه في الكلية الإسلامية في طرابلس كان من إخوتنا الفلسطينيين من سكان الميناء ومخيمَي البداوي ونهر البارد، وقد نمت بيننا صداقة قوية، وكانوا في تحصيل العِلم متفوّقين علينا".
ويضيف: "عندما جاء الإخوة الفلسطينيون في العام 1948 إلى منطقة الميناء، تشكّلت لجنة من العائلات، مسلمين ومسحيين، حيث استقبلوا الوافدين، وأنشؤوا جمعية وكان المشرف على صندوقها والدي روحي علم الدين، وكانت تودع الأموال في البنك العربي. وعندما حصلت ثورة 1958 في لبنان طالب الثوار بأموال الصندوق التي بلغت 1500 ليرة لبنانية فقال لهم والدي يجب أن تحصلوا على فتوى لأن هذه الأموال جُمعَت بقصد صرفها على اخواننا الفلسطينيين. من هذه الحادثة اكتشفت مدى العلاقة بيننا وبين الإخوة الفلسطينيين على صعيد شخصي، والتي تكرّست في المدرسة، وتكرّست أكثر من خلال العلاقة مع الثورة الفلسطينية، لأننا عايشنا القومية العربية وقضية فلسطين".
وعن العلاقة التي جمعته بالرئيس عرفات يقول:"لم أكن أعرف القائد أبو عمار، ولكن المقرّبين منه مثل بلال أبو زيد ومنذر أبو غزالة والحاج طلال، كانوا يتحدثون للرئيس الشهيد عن شخص اسمه عبدالقادر علم الدين، ولاحقاً شاءت الصدف أن التقيه في لقاء للحركة الوطنية بوجود جورج حاوي ونجيب عبدالصمد، وعندما عرّفوه علي عرفني مباشرة. وعندما جاء أبو عمار إلى طرابلس زرتُهُ برفقة أحد الإخوة في مقر إقامته في الزاهرية، ووضع إمكانياته في خدمة طرابلس وأهلها، وكان كريماً مع الكثيرين، منهم من حفظ ذلك، ومنهم من نسي هذه المعاملة الطيبة".
ويتابع: "التقيتُ بالرئيس أبو عمار قبل سفره بيوم واحد، طلبني وقال لي أنا غداً سأغادر لبنان وأنت عزيز عليّ، وأنا رئيس دولة وأريد أن أُودَّع بشكل رسمي، وفعلاً ذهبت إلى أحمد كرامي، وكان وقتها مدير مرفأ طرابلس، وأخبرتُهُ أنّنا يجب أن نقوم بوداع أبو عمار بشكل رسمي غداً بحيث يتضمّن عسكراً وبروتوكولا، وحضّرنا أنفسنا، فجاءت أربع بواخر أمام الشط وانتظرنا حتى يأتي ياسر عرفات، إلّا أنَّه كان قد ركب السفن وغادر، لكنه عاد واتصل بي معتذرًا مبرّرًا ذلك بالدواعي الأمنية".
وعن شخصية الرئيس الشهيد يقول علم الدين: "ياسر عرفات رجلٌ قائدٌ ورمزٌ شعبيٌّ قريبٌ من الناس، كان مرعباً للملوك الكبار وحنوناً على الأطفال الصغار، إنّه نموذج في العالم قد لا يتكرّر، امتلك الذكاء الشعبي وكان ملك الألقاب كلها، جمعَ حوله الحركة الوطنية وأشخاصاً من كل الطوائف وكل الأحزاب".
ويردف: "ياسر عرفات كان بعد منتصف الليل يتمشّى يوميًا على رصيف الميناء برفقة منذر أبو غزالة وبعض المقرّبين، وفي ذلك الوقت كنتُ رئيس بلدية في عز الفوضى، ولم يكن هناك دولة، وكانت علاقتي جيدة جداً بقيادات حركة "فتح"، وقد ساعدني في تقديم الخدمات وجعل من الميناء مدينة نموذجية شخصان من المقرّبين من ياسر عرفات هما بلال أبو زيد ومنذر أبو غزالة، فكانا صمام أمان لمدينة الميناء، بتوصية من القائد ياسر عرفات بحق مدينة الميناء. بلا شك لا أستطيع أن أنسى تلك الأيام التي جمعت الميناء بأهم شخصية فلسطينية هي القائد ياسر عرفات الذي لم يعرف الخوف طريقاً إلى قلبه. لقد كان قائداً فذّاً يندر أن تجد مثيلاً له في الأُمّة العربية".
طرابلس احتضنت عرفات وعرفات بادلها الوفاء بالوفاء
"نفتقدُ تلك الهامة الوطنية الكبيرة العربية الطابع الفلسطينية الهوى التي غابت في زمن صعب وخطر في عمر أزماتنا العربية وفي الطليعة منها قضية فلسطين التي حملها الشهيد إلى آفاق الأرض كلها دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته فوق ترابه الوطني"، يقول رئيس بلدية طرابلس المهندس رشيد جمالي، عمّا يستحضره في الذكرى الثانية عشرة لغياب الرئيس ياسر عرفات.
ويضيف: "لقد كان الرئيس ياسر عرفات صديقاً عزيزاً لطربلس، طرابلس كانت في وجدانه وقضى فيها أشهراً طوالاً في فترة صعبة جداً من تاريخ القضية الفلسطينية كان فيها إلى جانب أهلها، وكان أهلها إلى جانبه يحتضنونه ويحتضنون عبره قضية شعب فلسطين، فبادلهم الحب بالحب والوفاء بالوفاء. وقد أُتيحَ لي خلال وجوده في طرابلس في الثمانينيات أن التقيه تكراراً، وان أُوطّد علاقة شخصية خاصّة معه ملؤها المحبّة والاحترام لهذا القائد العربي الفذ الذي حمل قضية العرب الأولى في ضميره، واستشهد وهو يدافع عنها، وأنا استعمل تعبير استشهد نظراً لحجم الشكوك الكبيرة جداً المتعلّقة بغياب الرئيس عرفات بشكل مفاجئ وغير متوقع. لقد ربطت الرئيس عرفات بطرابلس علاقة محبّة ومودة، ودعم كبير من أهل المدينة لشخصه أولاً وللقضية الفلسطينية تالياً، فهما وجهان لقضية واحدة، هي قضية العرب الأولى، فلسطين.. بلا أدنى شك جسّد الرئيس عرفات بكل لحظة من لحظات حياته القضية الفلسطينية، كانت القدس أولى القبلتَين وثالث الحرمين دائماً في ضميره ووعيه، وفي طليعة اهتماماته، ولم يحضر في مجلس ولم يتكلم على منبر إلا والقدس حاضرة في كلماته ومواقفه دائماً. إنَّ مسيرة حياة ياسر عرفات وطريقة استشهاده تشكِّل نموذجاً يُحتذَى في النضال الوطني العربي والعالمي لأنّه قضى حياته مناضلاً في سبيل فلسطين، وقدَّم حياته فداءً لقضية فلسطين، وأنا أجزم بأنَّ العدو الصهيوني قد اغتال ياسر عرفات، لأّنه كان رمزاً صلباً من رموز النضال الفلسطيني ورمزاً عالمياً من رموز النضال ضدّ كل أشكال الاستعمار".
ياسر عرفات رجل الثورة والمحبّة والفداء
تحتلُّ فلسطين مكانة خاصةً لدى منسّق المنتدى القومي العربي ورئيس الندوة الشمالية فيصل درنيقة، وهو الذي تعرَّف على الثورة والانطلاقة الأولى من خلال عمله في القومية العربية، حيثُ يقول: "كحركة قومية جامعة كانت العروبة تعني بالنسبة لنا فلسطين، الشرف والوجدان، والوجود والحياة، والجرح العميق في صدر هذه الأُمّة، لأنّها انتُزعت منا بعد أن استباحها العدو الغاصب. لقد كان ذلك مؤلماً جداً، لذلك منذ إطلاق الرصاصة الأولى كنا نتطلّع إلى فلسطين، ونرى ياسر عرفات، ذلك الشاب المهندس، بين صفوف إخوته وأبنائه يقاتلون بالبندقية في غور الأردن. فاتّجهنا رغم وجودنا في أحزاب نحو فلسطين ورمزها أبو عمار الذي كان يقوينا ويُكبِر فينا روح الفداء، وكانت المحبّة تتجسّد في روح العمل النضالي والكفاح المسلّح وكنا ندرك، وإن كنا من مدرسة مختلفة، أنَّ فلسطين لن يحررها إلّا الكفاح الشعبي المسلّح، ولما وجدنا أول مجموعة تطل علينا بهذا الزخم وبهذه الارادة وهذا التصميم من القائد ياسر عرفات وإخوانه كنا نتطلّع إليه بأمل، لذلك نحن في طرابلس، ورغم عدم معرفتنا به الشخصية في البداية، إلّا أنني كنتُ من الأشخاص الذين حملوا صورة القائد أبو عمار تحت قميصي ودرتُ في الأسواق في التربيعة والباذركان أوزع صُورَه بالسر، وأجمع التبرعات للثورة بقيمة ربع ليرة في تلك الأيام، وكنا نفتخر بأنّنا نحمل صورة قائد ورمز مهم بالنسبة لنا".
ويضيف: "تطوّرت الأحداث وتطوّرت معرفتنا أكثر بالرئيس أبو عمار، الذي تعرَّفنا عليه من خلال قادة فلسطينيين من المخيمات في نهر البارد والبداوي، وكانت توجيهات القائد ياسر عرفات لبلال أبو زيد ومنذر أبو غزالة بأن يحافظوا على العلاقة معنا. وكنا نلتقي الرئيس الشهيد في بيروت من خلال رفاقنا، ولم يكن يزور طرابلس في تلك الأيام إلّا بشكل استثنائي، لكنّنا كنا عندما نشعر بأنّ أبا عمار موجود في بيروت نسعى لزيارته حتى نتبارك منه، ونصافحه، ونشعر فعلاً بأننا نضع أيدينا بيد رجل ثورة بكل معنى الكلمة. طبعاً بحكم الأحداث والمعارك تسنّى لنا أكثر من غيرنا التقرُّب إلى أبو عمار لأنّنا كنا ممّن شاركوا ضمن جبهة التحرير العربية في تلك الفترة في منطقة الجنوب، وعندما نتكّلم عن منطقة الجنوب في العام 1969 لا بدَّ أن نذكُرَ قواعد حركة "فتح" التي أنشأها أبو عمار لمواجهة العدو الصهيوني، وكانت مدينة طرابلس ترسل من أبنائها العشرات من القبة وباب الرمل والتبانة والميناء إلى الجنوب، ليشاركوا في القتال ضد العدو الصهيوني، وجزء كبير منهم كان يقاتل مع حركة "فتح" نفسها ولنا الفخر بأن نعتبر "فتح" العمودَ الفقري للثورة. ونحن كنا جاهزين للقيام بأي عمل عسكري مع إخواننا في حركة "فتح"، وقد شاركنا في عدة معارك نحن والمرحوم خليل عكاوي، وكنا ننسّق مع الشهيد منذر أبو غزالة. ونذكر كيف استشهد القائد الحاج حسن في حاماة والجرح الذي سبَّبه استشهاد هذا القائد الرمز ياسر عرفات. وعندما حصل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ومن ثم التهجير الذي حصل للإخوة الفلسطينيين، كان لنا الشرف الكبير أن نكون إلى جانب القائد، وعندما جاء أبو عمار إلى طرابلس، كنتُ ممّن رافقوه وواكبوه منذ وصوله إلى طرابلس حتى السُّفن والوداع، طبعاً كان أبو عمار يثق بفريقنا في العمل، لذلك عندما كان يريد أن يخطو في طرابلس، كان أول اسم يُطرَح هو اسمي وهذا فخرٌ لي".
ويتابع: "عندما حصل الانشقاق وأرادوا وضع الشعب الفلسطيني في مواجهة أهل طرابلس، كان أبو عمار سبّاقاً إلى الاستنكار وللإحساس بالناس والأضرار التي لحقت بهم، فشكّل لجنةً مهمّتها دراسة التعويضات للأهالي الذين تضرّروا في طرابلس، وتمَّ تقديم التعويضات من خلال الصندوق القومي. وفي هذا السياق لا بد أن نذكر أنَّ أبو عمار بالإضافة إلى الجانب المسلّح، كان من خلال وجوده في طرابلس يحل محل كل مؤسسات ليس بشكل الإلغاء وإنما بصورة عمل خدماتي للبلد، وذلك بعد أن استشعر غياب دور المجلس البلدي الذي كان المفروض به أن يكون راعي الصحة العامة في البلد، فقام بدور كبير بأن كلَّف الكثير من الأطباء بالاهتمام بالوضع الصحي والموضوع البيئي وكذلك الاجتماعي والخدماتي وخاصةً المياه والكهرباء، وقد كان أبو عمار ملمًّا بكل هذه الجوانب، وهو محاصر ويعاني من ضغوطات هائلة وانشقاقات مفبركة تهدف للقضاء على الثورة وفي خضم المواجهات وترتيب البيت الفلسطيني، كل هذا لم يثنهِ إطلاقاً عن متابعة أدق التفاصيل و القيام بالأمور الصغيرة للمواطن في طرابلس لأنه شعر بأنّه الراعي لهؤلاء الناس، وهذه كانت ميّزة لا يتميّز بها إلا القادة الكبار. كذلك اهتم َأبو عمار بالشارع الوطني، وكان يعتبر أنّ كل حركة موجودة في البلد يجب احتضانها، لذلك سعى لتشكيل هيئات في البلد ومنها هيئة التنسيق الشمالية التي ضمَّت كل القوى والأحزاب كي يجنّب مدينة طرابلس أي اقتتال داخلي أو فئوي، ونجح في ذلك، وكان لزيارة قام بها إلى رئيس الحكومة آنذاك، رشيد كرامي، الأثر الكبير، وقد استمرَّ عمل هيئة التنسيق بدعم من الثورة الفلسطينية وخاصةً أبو عمار بالإضافة إلى قادة مثل أبو جهاد وأبو الهول الذين استطاعوا ترسيخ الأمن والاستقرار الأمني في المدينة. وكان لي شرف أن أكون الأقرب إلى أبو عمار إذ لبّى دعوتي أن يقيم آخر ليلة له في مدينة طرابلس في بيتي المتواضع في أبي سمراء، فبقينا حتى ساعة الفجر، وتوجّهت معه برفقة إخوة آخرين إلى المرفأ حيثُ الباخرة التي أقلته من طرابلس وكان الوداع".
ويختم درنيقة حديثه قائلاً: "برأيي لا يمكن للثورة أن تستمر إلا من خلال مدرسة ياسر عرفات والنهج الذي أسّسه، وأعتقد أنّه لا يمكن للثورة أن تنجح إلا باعتماد هذا النهج الذي أرسى روح الفداء والمحبّة، بل روح المواجهة والصبر، وهي صفات تميّز بها أبو عمار، وأتمنّى أن نحذو جميعًا حذوه في هذا الاتجاه، وأن نكون أمناء على القواعد التي أرساها فينا بالتصميم والإرادة والإيمان بأنَّ قضيتنا هي قضية عادلة، وأن نتذكّر جميعًا أنه بالرغم من التعدُّد الفصائلي الذي وُلِدَ بعد "فتح" والذي أوجدته بعض الدول العربية لمواجهة "فتح" وامتدادها استوعبها أبو عمار وأدرك أنه لا يمكن أن يسمح لأيٍّ كان باختراق صفوف الثورة وإحداث الفتن ما بين الفلسطينيين، وحتى مؤخّرًا عندما وُجِدت حماس،كان ينسّق مع قادتها، لذلك فإذا أردنا للثورة أن تنتصر يجب أن نبقى على نهج ياسر عرفات، وأتمنّى على الكل الفلسطيني قراءة مدرسة أبو عمار وسيرته للتعلُّم منها وتعليمها للناشئة الفلسطينية".