خاص مجلة "القدس" العدد 332 تشرين ثاني 2016

يمـرُّ على رحيلك اثنا عشر عامًا أيّها الزعيم والقائـد الاستثنائي وما يزال الحزن فينا وكأنّك رحلتَ منذ يـوم. قالوا مـات "أبو عمار"، فقُلنا لا لـم يمـت، بـل رحـل جسداً، فالموت الفعلي يحـلُّ بالإنسان لا سـاعـة يتوقّف قلبـه عـن الخفقان إنما لحظـة اختفـاء ذكـره بين الناس، وأبو عمّار سيبقى حيًّا فينا دائماً.

عرفات: مُفجّر الثورة وصانع السّلام
في حديثها عن الشهيد الراحل تتساءل عضو المجلس الثوري لحركة "فتح" رئيسة فرع الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في لبنان "آمنة جبريل" مخاطبةً روح أبي عمّار: "كيف ننسـاك وأنت مازلت تسكن القلوب والعقول؟! كيف ننساك وأنت تنتمي إلى قضية عادلة وإلى أجمـل بلاد الدنيا؟! كيف ننساك أبا عمار وغصن الزيتون لايزالُ في يـدك أخضـر؟".
 وتضيف: "لقـد كان قائـداً فـذّاً جمعَ أول ما جمعَ طلاب فلسطين، تلك الفئـة الواعيـة من مختلف دول الشتات، في تنظيم طلابي أصبح فيما بعد رافـداً من أهـم روافـد الثورة. كان سياسياً محنّكاً عَرفَ في الوقت المناسـب اتخاذ القرار المناسب، وحين ملَّ شعبنا من الخطابات، أطلقَ حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتــح"، وأعلن للعالم عـن عـزمه لتحرير فلسطين عبر الكفاح المسلّح، وقال نحن الفلسطينيين نريدُ دولة مستقلة وذات سيادة، ولهـذا يتوجّب علينا أن نحرّرها بالقوة ولا يوجـد طريـق آخـر أمامنا. وكان أول مَن قال للعالم إنَّ قضية الشعب الفلسطيني من ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني من الاحتلال والاستعمار والاضطّهاد، وطالب ممثّلي الحكومات والشعوب، بعدما كشف عن الممارسات الإسرائيلية العنصرية، أن تقدِّم الدعـم والمساندة لشعبنا في تقرير مصيره والعودة إلى دياره، وفي خطابه العام 1974 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خلص بالقول: (جئتـُكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقِـطوا الغصن الأخضر من يدي... الحرب تندلع من فلسطين والسِّلم يبـدأ من فلسطين)".
وتنوّه جبريل إلى أنَّ الرئيس الشهيد كان صمام أمـان واستمرار ونضج منظمة التحرير الفلسطينية ضـد كل محاولات الأعداء لطمس الهوية أو إيجاد بدائل عنها، وجمعَ حوله خيرة رفاق الدرب من المناضلين وكان يُحسـن الاختيار، فبنى داخـل المنظمة مؤسسات ومقومات دولـة لشعب مشتّت وموزّع في كل أصقاع العالم. وتتابع: "بعهده وبقيادته اتّخـذ المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988  قراراً بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وأثبتَ للعالم أنه رجـل سـلام من الطراز الأول، حين أعلن في خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نفس العام عن مبادرة السلام الفلسطينية، وحيث توالت بعدها اعترافات العديد من دول العالم بالدولة الفلسطينية المستقلة، وتوقيع (اتفاق أوسلو) العام 1993، الذي تمخَّض عنـه كيان فلسطيني جديد تجسـّد بالسلطة الوطنية الفلسطينية، فعاد نسراً محلّقاً بسماء فلسطين، ومنـذ عودته إلى غـزة العام 1994 رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية كرّس كل جهوده ووقتـه لبناء مؤسسات الدولة، ونسـج علاقات طبيعية مع كل دول العالم، وتابع جهـوده بالعملية السلمية في الشرق الأوسـط، وقد توّج ذلك بنيله (جائزة نوبل للسلام) التي كان أهـلاً لها، خاصةً أنّه لم يفـرّط بأي حـقٍّ من حقوقنا في كل الاتفاقات التي عُقِدت وحتى النفس الأخير، كان يدافـع عن اللاجئين، ويطالب بالقدس عاصمةً لدولة فلسطين، ويرفض المستوطنات، ونتذكّـر جيـّداً رفضه للمقترحات الأمريكية التي تضمّنت التنازل عـن حـق العـودة للاجئين الفلسطينيين وتحويل القدس إلى مدينة مفتوحة لعاصمتَين".
 وتردف مخاطبةً روح الرئيس الشهيد: "عنـد انـدلاع انتفاضة الأقصى العام 2000، كنتَ قائـداً عصيًّا على خصومك الذين طالبوك بالعمل على اسـكات الانتفاضة، فلم يتلقوا منك غير رسائل الرفض، وحينها صعّدت الحكومة الاسرائيلية الموقف وحاصروك في مقرك برام الله العام 2002، وقامت جرافات الاحتلال بتدمير أجـزاء كبيرة منه، حيث أرادوا أرهابك، لكنهم وحين سمعوا صوتك وأنت تقول: (يريدونني أسيراً أو طـريـداً أو قتيلاً.. وأنا أقول لهم شهيداً شهيداً شهيداً) احكموا الحصار، فحاصروك ثلاثين شهراً، وانتهى الأمـر بتحقيق حُلمكَ بالشهادة، ولم تفرط بثوابت شعبك... أيّها القائـد العظيـم... أيّهـا الأخ الكبيـر... أيّهـا الوالـد الـوفـي".
وتختم المناضلة جبريل حديثها بالقول: "نحـن على خُطاك سـائرون رغم كل ما يصيبُ وحدتنا الوطنية، لكنّنـا بلا شك سنتجـاوزه، فـدروس الـوحـدة الـوطـنية هي أهـم ما يميـّز مدرســة عرفات. لقـد كنتَ خيـر الـداعمين للمـرأة الفلسطينية في كافـة المراحل النضالية، في الداخل والشتات. ألسـتَ أنـتَ مَن وصفنا بشعـب الجبّاريـن... نم قـريـر العيـن".

"أبو عمار" فلسطيني وحدوي وإنساني بامتياز
أضحت حركة "فتـح" بتوصيف المشرف على دائرة شـؤون عوائل الشهداء والجرحى والأسـرى في الساحة اللبنانية المناضل "شريف عمـر سوقي" عصيةً على الكسـر، وهي الرصاصة الأولى والشهيد الأول والجريح الأول، بحكم تضحياتها وحكمة قيادتها وربّان سفينة العودة الشهيد "أبو عمار"، ركيزةً نضاليةً أساسيةً، وقائدةَ مسيرة الثورة والكفاح الوطني الفلسطيني. وفي سبيل فلسطين قضى السواد الأعظم من قادة مفاصل العمل الحركي بل ولجنتها المركزية، ولحـقَ بهـم قائد الفتح وختيارها رفيق الدرب ورمز فلسطين الشهيد الرئيس ياسر عرفات.
يُستذَكـر الشهيد الراحل أبو عمار بكـمٍّ كبير من المناقبية والمزايا، ورغم ذلك تجد بين الفلسطينيين مَن يختلف معه، لكنهم لا يختلفون عليه، فهو محل إجماع، وحدوي وإنساني بامتياز أيضاً، وعطفاً عليه يشير المناضل شريف "أبو أيمن" إلى فطنة أبو عمار ورفاق دربه الأوائل التي شكّلت دافعاً قويًا لاستخلاص الدروس والعِبَر من الثورات الفلسطينية السابقة، ومنها لجهة العمل على توفير ما أمكن من مستحقات الرعاية الاجتماعية لعوائل الشهداء لأهميتها ودواعيها الإنسانية من جهة، ومفاعيلها الإيجابية في الحفاظ على ديمومة الانخراط والإقبال على العمل الثوري من جهة ثانية، فأنشؤوا العام 1966 مؤسسة الشؤون الاجتماعية الحركية، وسرعان ما تحوَّلت لمؤسسة فلسطينية وحدوية جامعة لكافة عوائل شهداء الثورة الفلسطينية على اختلاف جنسياتهم وانتماءاتهم، وإحدى مؤسسات "م.ت.ف"، وترسـَّم ذلك بقرار المجلس الوطني الفلسطيني العام 1969، وافتتحت فروعًا لها في العديد من الدول العربية (لبنان، سوريا، مصر، العراق، فلسطين) اثر قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. ويؤكّـد المناضل شريف عدالة "أبو عمار" وتعامله مع عوائل الشهـداء بدون تمييز بين شهيد من "فتـح" وشهيد من تنظيم فلسطيني آخـر، ولا حتى بين شهيد فلسطيني وآخـر لبناني او عربي... الـخ، لافتاً إلى أنَّ "الشهيد حرص على حصول عوائل الشهداء على المنَح الدراسية في الخارج، ولم يحدث أن تقدَّم أحـدٌ من عوائل الشهداء طلباً لحاجة وردَّه أبو عمار خائبًا"، وبذات السياق يستذكر أنه بإحدى المناسبات في مدرسة أبناء الشهداء بسوق الغرب ردَّ أحـد السفراء العرب على أحد الحضور من الأمة بقوله: (احمدوا الله أنتم خارج وطنكم وبتصرفوا لعوائل الشهداء، احنا كنا بوطننا ولم نكن بوضع يمكّننا من رعاية عوائل الشهداء)، ويضيف الاخ شريف: "العام 1975 تعرَّضت بلدة الطيبة للعدوان الاسرائيلي، وأبلغني أبو عمار بالذهاب فوراً برفقه الأخ أبو ناصر وإجراء مسح ميداني للأضرار، وبالفعل تمَّ ذلك وصُرِفَت مستحقات التعويض"، ويضيف: "أبو عمار كان من الممكن أن يعاقب المقصّرين لكنه لم يحرم أحداً من بندقيته، ولم يحرم أحداً من مخصّصه البتة".
ويستذكر "أبو أيمن" العديد من المواقف والذكريات التي عايشها مع الشهيد أبو عمار حيث يقول: "ذات يوم أقامت روضة الشهيدة دلال المغربي معرضاً لأبناء الشهداء في مخيّم برج البراجنة، وظنَّ السواد الاعظم أنَّ إصابته بديسك الرقبة ستحول دون حضوره، لكنّه فاجأ الجميع بتلبية الدعوة، وقال في افتتاحية المعرض: (أحـَبُّ الزيارات التي أقوم بها على قلبي تلك التي اجتمع بها بأحبِّ الناس.. أبناء اخوتي الشهـداء). وفي إحدى المرّات علمَ الاخ أبو عمار أنَّ إحـدى بنات الشهداء تخدم في البيوت، فقال لي اذهب واحضر ابنة الشهيد، وقـُل لصاحب الـدّار نحن خـدم لأبناء الشهيد ولا نسمح بأن تعمل بناتهم خدمًا لأحـد... وحمّلني صاحب البيت رسالة للختيار ومفادها (بأمثال هذه القيادة سننتصر بإذن الله)".
ويضيف: "أقامت مؤسسة الشؤون ذات مـرة دورة تعليمية لمعلّمات رياض الاطفال في مدرسة أبناء الشهداء بسوق الغرب في بيروت، وعقب دخول أبو عمار هرول باتجاهه أحد أبناء الشهـداء وقفـز على ظهره، فسارع أحـد الموظفين لتوبيخ الطفل، فسأل أبو عمار (ابن من هـذا؟)، فـردَّ الموظف أنّه ابـن أحد الشهداء، فأجابه أبو عمار (من حقه اذن أن يقفز على ظهري وظهرك...)".
وحول حدث آخر عايشه أبو أيمـن يقول: "حصل أن تسلَّمتُ رسالة من الاخ أبو عمار لاعتماد حالة بسجلات المؤسسة، وبعـد الدراسـة أخبرتُه بعدم أحقية حصول الحالة على الاعتماد بسبب التصرفات المسيئة لولي أمر الحالة بحق الثورة الفلسطينية، وحينها خاطبني أبو عمار قائلاً: (هل تقـرأ القرآن)، قلتُ نعـم، فقال: (هـل قرأتَ آيـة: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...)، وأردف قائلاً: (إذا أسـاء الوالد للثورة فما ذنب أولاده؟ مَن المسؤول عن الشعب الفلسطيني؟)، أجبتهُ: أنتَ، فقال: (هـذه الأسرة مِن الشعب الفلسطيني، وأنا مسؤول عنها)".


تحقيق: وليد درباس