ما برحت شواهد الذاكرة الفسطينية تتعرض للتدمير منذ نحو سبعين عاماً. وكانت ذروة ذلك التدمير ما حدث في سنة 1948 حين مُحيت 419 قرية فلسطينية. وعلى ارغم من ذلك، فإن المرء يمكنه أن يستدل على تاريخ المكان، حتى اليوم، من بئر باقية أو من قبر مازال صامداً، أو من عين ماء أو مزار أو كنيسة متداعية، أو من نبات الصبار الذي من المحال إفناؤه. والمقابر جزء من ذاكرة المكان، وقد صارت قبور الشهداء مقدسة ليس لأنها مقدسة في حد ذاتها، بل لأن الرموز التأسيسية للوطن كالنقد وجواز السفر وطوابع البريد والعلم المقترن بالسيادة، غائبة إلى جد كبير وكانت منازل الفلسطينيين في الشتات مخازن للذاكرة المهددة، فاحتفظوا بثروة كبيرة من الصور والأوراق الخاصة وأوراق الطابو. لكن هذه الثروة ما انفكت تتعرض للاندثار. هذا ما جرى في سنة 1970 في الأردن، وفي لبنان منذ ما قبل الحرب الأهلية في سنة 1975 إلى ما بعد الحرب على المخيمات في سنة 1987. لنتذكر تدمير مخيم النبطية في سنة 1974 وتدمير مخيم نهر البارد في سنة 2007، وتدمير مخيم جنين في سنة 2002، وتدمير منازل قطاع غزة منذ سنة 2009 قصاعداً. وتحت ركام هذه الأماكن دُفنت كنوز إنسانية لا تقدر قيمتها التاريخية والحضارية والنفسية على الإطلاق.
لم تسلم مخيمات الفلسطينيين في سورية من المحو بعدما عاش الفلسطينيون في هذا البلد في استقرار طويل، وكانوا يتمتعون بأوضاع حسدهم عليها فلسطينيو الشتات من حيث المعاملة وعدم الشعور بالغربة الاجتماعية. وكانت مقبرة الشهداء في اليرموك تتسع بالتدريج كلما تعاظم النضال الفلسطيني. وتحولت شواهد هذه المقبرة إلى تاريخ صامت، نقشت على رخامها اسماء وتواريخ ووقائع، إلى أن أنشبت الهمجية أظفارها في تلك الديار التي ظلت آمنة طوال أربع وستين سنة متواصلة. ولما سقط اليرموك بين براثم الجماعات التكفيرية في سنة 2013 بتواطؤ من جماعات فلسطينية تكفيرية أيضاً، لم يترك هؤلاء أي شيء في المخيم لم يسرقوه أو يحرقوه: المكتبات ومعدات المؤسسات التربوية والصحية والاغاثية والاثاث المنزلي وصور الشهداء ومقتنيات الذاكرة. وأخيراً امتدت نزعة التدمير لديهم الى مقبرة شهداء اليرموك التي تشكل، في حد ذاتها، تاريخاً للحركة الوطنية الفلسطينية. وهذه المقبرة تضم رفاة كل من خليل الوزير (أبو جهاد) وسعد صايل (أبو الوليد) وفتحي الشقاقي (أبو ابراهيم) ومحمد زيدان (أبو العباس) وممدوح صيدم (أبو صبري) وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وزهير محسن وجهاد جبريل وعبد المحسن أبو ميزر وطلعت يعقوب ونمر صالح (أبو صالح) علاوة على القبر الرمزي لأبو علي إياد ومئات الاعلام في الادب والثقافة والسياسة.
إنه لأمر مهين حقاً أن تفتك هذه الجماعات بالذاكرة الفلسطينية الموشومة بالنار والدم، فكأنها تستكمل ما تفعله اسرائيل في كل يوم. فما الفارق بين هؤلاء الضباع والفاشيين الاسرائيليين؟ لا فارق.


صقر أبو فخر