خاص مجلة القدس العدد 330 ايلول 2016
تحقيق:نادرة سرحان

"لا تحاولوا إعادة تضميد جروحي، ولا تحاولوا مسح وجنتَي إذا شاهدتم يوماً دموعي، اتركوها لتمحو كلماتكم التي أثّرت سلباً في وجداني، والتي لن أسمح لها مجدّداً بتدمير كياني. أمشي في مثل خطاكم، وإذا أردتم أتحداكم. ومع هذا كله، لا أعلم لماذا تُصرّون دائماً على أني دون مستواكم؟!"، بهذه الكلمات يتوجّه كل إنسان معوّق إلى المجتمع الذي يرى فيه لعنةً تصيب الأهل وتعرقل عليهم حياتهم، مجتمع ينجرُّ وراء الصورة النمطية الحمقاء التي تصنِّف الناس وفقاً لمعايير خرقاء.
"معاق، مشلول، أعمى، منغولي، مجنون" بكل تجرُّد هكذا يصف مجتمعنا الإنسان المعوّق الذي يمتلك صفات إضافية تميّزه عن الشخص غير المعوّق. فمجتمعنا الذي يصف نفسه بالعاقل لا ينفك عن مضايقة الأشخاص المعوّقين إما بتهميش، أو بشفقة، أو حتى بشعور خجل. في حين أنَّ المعوّق لا يحتاج إلى كل هذا، فجُلَّ ما يحتاجه هو الاعتراف به وبكينونته، وبدوره الفعّال في المجتمع كونه جزأً لا يتجزّأ منه، واحترامه هو واجب على كل فرد، كما أنَّ احترام قوانين حقوقه الخاصة دليل على تحضُّر المجتمع. فإلى أي مدى نحن متحضرون؟
يشغلُ المعوّقون الفلسطينيون حيّزاً كبيراً في خانة المبدعين، الذين خَطّوا بأناملهم أروع قصص النجاح والانتصارات التي تخلَّلها الكفاح والعزيمة معاً، غير آبهين لا لعراقيل المجتمع ولا لعراقيل الأفراد. وبالرغم من أنَّ للمعوقين احتياجاتهم الخاصة، إلا أنَّ لهم إبداعات ولمسات مبهرة قد يعجز غير المعوّق عن القيام بها. وخلافاً للمقولة التي تُردَّد على أسماعنا بأنَّ "العقل السليم في الجسم السليم" نجد بالعودة إلى سيرة حياة الكثير من العلماء والمفكرين والأدباء، تعارضاً مع هذه المقولة، إذ إن الكثيرين منهم لم يكونوا بأجساد معافاة تماماً. فعميد الأدب العربي طه حسين كان كفيفاً، والمخترع توماس أديسون كان أصمّاً، ولويس باستور الذي توصّل إلى اختراع التطعيم ضدَّ الأمراض كان مشلولاً، وكذلك الأمر بالنسبة للأديبة والمحاضرة هيلين كيلر التي كانت كفيفة وصماء في آنٍ واحد. ولكن إعاقتهم لم تمنعهم من المضي قدماً في الحياة ليثبتوا أنَّ الإعاقة ما هي إلا إعاقة فكر وروح.

قصصُ نجاحٍ أبطالها معوّقون
عبد محمد أسعد و27 عاماً من العمل في مجال الإعاقة
عبد محمد أسعد فلسطيني  يبلغ من العمر 51 عاماً، يقيم في مخيم الرشيدية في صور. وُلِد بإعاقة بصرية، متزوج وله من الأولاد  طفل وطفلة، وهو حاصٌل على دبلوم دولي في مفاهيم الإعاقة وعدة جوائز دولية عن العمل الإنساني الذي يقوم به في مجال الإعاقة. إعاقته واندفاعه خوّلاه أن يتولّى مهمات عديدة منها: مسؤول ومنسّق برنامج الإعاقة بين مؤسّسات منظمة التحرير والأونروا والمؤسسات الأهلية في منطقة صور ومخيّماتها، وأمين سر مؤسسة الشهيد أبو جهاد الوزير لذوي الإعاقة، بالإضافة لكونه مدرِّباً أكاديميّاً حول مفاهيم الإعاقة والاتفاقيات الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة، وخبيراً في مجال الإعاقة البصرية والإعاقات الأخرى. يحدثنا الأستاذ عبد بكل تحدٍّ عن قصته مع الإعاقة، قائلاً: "وُلدتُ كفيفاً، لا أملك حاسّة البصر، ولكني كنتُ أملك البصيرة التي ساعدتني على تحدي الظروف. في سن السابعة التحقتُ بالمدرسة الإنجيلية اللبنانية للمكفوفين التي علّمتني كيف أعتمد على نفسي بعكس مدارس الأونروا التي تفتقر إلى خاصية دمج المعوّق في المجتمع، إذ تعتمد على مبدأ التلقين ومعاملة المعوّق على أنه مستمع فقط. من ثُم دخلتُ الجامعة اللبنانية وتطوّعت إلى جانب دراستي في مؤسّسة للمعوقين، ونجحتُ حينها بأن أُشبّك مع المعوّقين أنفسهم من خلال المناصرة والتمكين. فخلال فترة الثمانينيات كان المعوّق الفلسطيني يعيش أبشع الظروف، لذلك باشرنا حينها بمشروع تعاون مع اليونيسف ومنظمة التحرير الفلسطينية لنشر الوعي والمعرفة حول ثقافة الإعاقة في البيوت والمؤسسات، وكانت مهمةً صعبة إذ بقينا لمدة 6 سنوات نعمل على مفهوم الوعي الاجتماعي والتأهيل والدمج الشمولي إلى أن تمَّ تبني فكرة إنشاء صرح للمعوقين من قِبَل منظمة التحرير بشكل رسمي عام 1989 فكانت مؤسسة الشهيد أبو جهاد الوزير التي استطعنا من خلالها توظيف 52 معوّقاً في المؤسسات التابعة لحركة "فتح" او المنظمات غير الحكومية أو من خلال استثمار القروض في مشاريع فردية. كنتُ أمشي متوكّئاً على عصاي في أزقة المخيم أتواصل مع الناس والجيران حتى اقتنعوا بأنَّ المعوّق قادر على العطاء. كما سعيتُ جاهداً لإبراز دور المعوّقين رياضيًّا في المجتمع الفلسطيني، ولكن هذه المشاريع لم تكن تلبث طويلاً بسبب ضعف التمويل مما يحول دون الاستفادة منها. كذلك سافرتُ 16 مرة إلى دول عربية وأوروبية منها اسبانيا، ومصر، وتركيا، وسوريا، وهولندا بغاية نشر المعرفة عن المعوّق الفلسطيني الذي يعاني من مشكلة اللجوء والإعاقة معاً، من دون أن أنظر لنفسي على أني كفيف لا أستطيع".
وبسؤاله عن التحديات التي يواجهها المعوّق أجاب قائلاً: "الشخص المعوّق يفتقر إلى الألفة والمحبّة والمساعدة، البعضُ يكون محظوظاً من قِبَل الأهل، ولكن هناك قسم يعاني من عزلة  لأنَّ مجتمعنا الفلسطيني لا يتبنّى هذه الحالات، ومؤسّسة صغيرة لا تكفي لكل لبنان. كما أني أعتبُ على كل مؤسّسة إعلامية مكتوبة كانت أو مرئية لا تنقل قضيّتنا إلى الرأي العام، بالمقابل أشكرُ كل الشكر كلَّ مؤسسة تلتفتُ إلى نجاحات المعوّقين إذ تساعدنا على المضي إلى الأمام فنحن أصبحنا في 2016 إلا أنّنا ما زلنا نعاني من التهميش".
وعن نصيحته للمعوّقين يقول: "لا تصمت، لا تنتظر من أهلك أن يؤمّنوا لك مصروفك. انهض إلى المجتمع، وطاِلب بحقك بدبلوماسية وسلمية وليس بطريقة عنفية، فهناك الكثير من المناسبات الدولية للإعاقة، لماذا لا تستغلُّها؟ بإمكانك الاعتصام والمطالبة بحقك".

محمد أبو الخير والصحافة
"وضعتني الحياة أمام خيارَين: إمَّا أن أكون غاضباً من الله بسبب ما لم يعطِني إياه، وإمَّا أن أكون شاكراً له لما أعطاني إياه، ففضلتُ الخيار الثاني على الأول، ومضيتُ قدماً في هذه الحياة".
بهذه العبارة افتتحَ محمد أبو الخير، خريج كلية الصحافة والإعلام، ابن الـ26 عاماً حديثه. فمحمد، المقيم في صيدا، يعاني من إعاقة حركية منذ ولادته، ولكن قانون الحياة الذي يسلكه هو تحويل الإعاقة إلى طاقة. يقول محمد: "وُلدتُ بهذه الحالة، أقولها وبكل فخر. فلم أنظر يوماً لنفسي على أني إنسان غير سوي أو غير طبيعي، بل على العكس تماماً تقبّلتُ نفسي كما أراد الله لها أن تكون بدون أي جحود، وما ساعدني على ذلك عائلتي، وعلى وجه الخصوص والدتي التي كانت خير سند اتّكأت عليه. فلقد آمنت بي وجعلتني أؤمن بنفسي أيضاً، وشجّعتني على أن أكمل دراستي وأنال شهادتي الجامعيّة. لقد قطعتُ أنا وإياها أشواطًا كبيرة، فكانت تقول لي دائماً بأن قلمك هو سلاحك يا بني إياك أن تتخلّى عنه لأنّه هو لك السبيل، فوضعتُ كلامها نصب عيني حتى وصلتُ إلى ما كنتُ أتمنّى ألا وهو اختصاص الإعلام". وبسؤاله عن أبرز التحديات التي واجهته قال: "واجهتُ الكثير من العوائق لا سيما تلك التي كانت تعيق حركتي، ففي العديد من المواقف كنت أشعرُ بالإحباط عندما كنتُ أريد جلب شيء أو القيام بشيء ما ولا أستطيع، خاصة أنني لستُ بالشخص الإتّكالي. موقفٌ آخر كنتُ أتعرضُ فيه للإحراج هو الاستهزاء من قِبَل بعض الأشخاص على طريقة مشيتي أو شكلي، وغالباً لم أكن أردُّ عليهم، فلم يكن الأمر يؤثّر بي لأني كنتُ واثقاً بنفسي، وواثقاً أكثر بأنّه سيأتي يوم وأصبح فيه شخصاً فاعلاً في المجتمع، لا يُنظَر له بعين الشفقة. وها أنا اليوم خريجٌ جامعي، درست الاختصاص الذي أحبّهُ بالرغم من أنه اختصاص صعب جداً علي، ولكنني لم أستسلم بل قاومت وسأبقى أقاوم، فهكذا علّمتني فلسطين، وهكذا علّمتني إعاقتي".

إلهام وقصتها مع الإعاقة المفاجئة
إلهام عبدالغني تبلغ من العمر 55 عاماً. تختلف حالة إلهام عن غيرها من حيث نوع الإعاقة، فهي وُلِدت كإنسانة غير معوّقة ولكنها أُصيبَت في سن الثالثة عشرة بمرض التهاب المفاصل الروماتويدي (Rheumatoid Arthritis)، ما دفعها إلى تلقي العلاج في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، فارتكز العلاج على دواء الكورتيزون (Cortisone) الذي سبّب لها لاحقاً إعاقةً تمثّلت في تشوهات في العظام، وكانت حالتها هي الأولى من نوعها في لبنان في العام 1975.
وحول مدى تقبُّلها لإعاقتها التي لم تكن موجودة لديها مسبقاً تجيب إلهام ضاحكةً: "لا أشعرُ بأنَّ لدي إعاقة، فأنا أتقبُّل نفسي كما هي. لا أنكر أنّني في البداية كنت أخجل كثيراً، إذ كنت أعيش أجمل مرحلة من حياتي. كنتُ أنظر إلى نفسي في المرآة، أقارن كيف كنت وكيف أصبحت، وكثيراً ما كنتُ أصاب بالخيبة ولكن شعور التحدي والإيمان في نفسي كان ينقضُّ على شعور اليأس حتى يرديه قتيلا. أجريت أكثر من 20 عملية، وكل عملية كان يترتّب عليها فحوصات كثيرة، لذلك قرّرتُ أن أدرس علوم المختبرات الطبيّة وفعلاً فعلتها. لماذا أبقى جاهلة واستسلم للظروف؟! أقل ما فيها أن أتعلّم كيف أقرأ تحاليلي الطبية بنفسي من دون مساعدة أحد. والآن أعمل في الإدارة في جمعية (مساواة) في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين والتي تُعنَى بتقديم خدمات للمعوقين، وأشرفُ على مشاريع تُعنَى بالتطريز والأشغال اليدوية التي يقوم بها أشخاص معوقون".
وبسؤالها عن أبرز المواقف التي أثّرت بها، أجابت: "في السابق عندما كنت أتعالج بمستشفى الجامعة الأمريكية، كان الناس يظنون بأنني سأموت، وبأن من يدخل إلى هذه المستشفى لا يخرج منها إلا وهو مغطى بالكفن، لذا كنتُ أرفض رؤية الناس بعد خروجي من المستشفى. كنتُ أقول لأمي دائماً: ماذا يريدون، هل يريدون أن يشعروني بالشفقة؟ كذلك الأمر بالنسبة للأشخاص الذين يستفسرون عن إعاقتي، فعلى سبيل المثال، في مرة من المرات سألتني إمرأة بكل صراحة، ألا تخجلين من شكل يديك؟ أجبتها: لا ولماذا أخجل، فيداي تقومان بأشياء، تعجزين أنت عن فعلها". وعن نصيحتها التي توجهها لأي شخص معوق، تقول إلهام: "في كثير من الأحيان يسقط الفنجان من يدي لأنني لا أستطيع حمله. ولكن هل هذه نهايتي؟ بالطبع لا. واجهوا العالم وأثبتوا له بأنكم أشخاص تستحقون الحياة. لا تلوموا الظروف ولا تتحسّروا، افعلوا ما يحلو لكم. ها أنا امرأة عاملة، أسافر كل فترة، أذهب للنوادي الرياضية لكي أحافظ على صحتي. وعليكم أن تعلموا جيّداً بأنَّ في اللحظة التي تتقبّلون فيها أنفسكم، كل العالم سيتقبلكم".

محمد موسى وعمله في المنظمات الإنسانية غير الحكومية
يتحدّث محمد موسى، ابن الـ25 عاماً، وخريج إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدولية، المقيم في مخيم البص في صور لمجلة "القدس" عن تجربته مع الإعاقة، وكيف استطاع أن يجعل من نفسه إنساناً فعّالاً في المجتمع، فيقول: "عشتُ طفولتي وأنا أعاني من صعوبة في المشي، فكنت أحتاج إلى مَن يساعدني وهنا كانت أمي تقوم بالمهمة. لقد كانت تأخذني هي إلى المدرسة بدون كلل أو ملل لإيمانها بي وبقدراتي، فاستمديتُ الإصرار منها. فالروضة وحتى المدارس لم تكن مجهّزة بالشكل اللازم لاستيعاب مَن هم في مثل حالتي، ولكن البيئة التي كنتُ أعيش بها (من أهل إلى أصدقاء إلى معلمين) ساعدتني على تقبُّل ما أنا فيه من خلال دعمهم وحبهم لي. وقد تحدّيتُ كلَّ الصعاب لأني مؤمن بأني إنسان كأي إنسان أستطيع أن أتعلّم وأنجح، أعمل وأفرح، أستطيع القيام بأي شيء. والآن أعمل في المجال الإنساني في الجمعيات التي تُعنى بحماية الأطفال اللاجئين داخل وخارج المخيمات، وأسعى دائماً إلى ترك بصمة عند كل إنسان أعمل معه أو أقابله".
وبسؤاله عن نصيحته التي يتوجّه بها إلى الأشخاص المعوّقين الملازمين لبيوتهم، الذين يخجلون من مواجهة المجتمع، أجاب: "أن تولَد كإنسان معوّق فهذه ليست نهاية العالم، بل النهاية ستكون إن لم تتقبّل نفسك كما أنت. وعلى كل معوّق أن يعي جيّداً بأنَّ الله حرمه من شيء، ولكنه بالمقابل أغدق عليه شيئاً آخر، فطالما لديك عقل سليم وقدرة على التواصل هذا بحد ذاته نعمة يفقدها الكثيرون. فالأيادي والأرجل مجرد أطراف، مجرد وسائل يحركها العقل، والإعاقة هي نقطة بداية كل إنسان معوق، فإياك واليأس لأنه سيدخلك في كابوس مرعب".
كلنا لدينا قدرات هائلة وطاقات إبداعية خلّاقة سخَّرها الله لنا منذ ولادتنا وجعلها ملك أيدينا، ولكن العديد منا يظنون بأنّهم فقدوا هذه القدرة بسبب فقدانهم لأطرافهم إما بحادث أو بمرض، أو من ولادة وضعتهم في خانة المعوّق، مغفلين أنَّ المهم هو أن نمتلك الروح الإنسانية والقدرة على الابتكار والإبداع والإرادة. يقول الروائي باولو كويلو: "كل شيء يحدث لسبب معيّن ولا شيء يأتي إلا في وقته... وإذا رغبتَ في تحقيق حلمك فإنَّ الكون كله يتضافر معك لتحقيقه". فالإعاقة ليست بعائق ما دام الشخص المعوّق يسمو بذاته ويُبدعِ بفكره ويؤمن بحلمه، ولكن المجتمع المتخلّف هو أكبر إعاقة قد يواجهها إنسان على هذه الأرض. فبعض العائلات تخجل من الافصاح عن أن أحد أبنائها معوق، وقسمٌ آخر يبقون أبنهم المعوّق حبيس البيت والفراش، حبيس الإعاقة. أيها المجتمع كف عن نظرتك الدونية التي تسيطر بها على الأفراد! كُفَّ عن التهكُّم وإحباط المعنويات! كُفَّ عن النّظر للمعوق على أنّه عاجز، لأنَّك أنت العاجز عن التخلص من مفاهيمك الخاطئة! معوقون هم نعم، ولكنّ لإعاقتهم قِصصاً بطولية.