خاص مجلة القدس العدد 330 ايلول 2016
حوار: د.سامي إبراهيم

تعيشُ أم أحمد (64 عاماً) في مخيّم مارالياس، وكغيرها من قاطني المخيمات الفلسطينية عايشت الثورة الفلسطينية في لبنان، لكنّها لم تنتسب وعائلتها يوماً إلى أيٍّ من فصائلها. وقد شاءت الأقدار أن تصبح أسيرة المستشفيات والعيادات اثر تعرُّضها لإصابة عمل في السنة المنصرمة، وعن ذلك تقول: "كانت صحتي ممتازة إلّا أني تعرضتُ لكسر في يدي أثناء عملي في تنظيف المنازل"، وتضيف "العمر له حق، وأنا بلغت الرابعة والستين ومازلتُ أعمل لأنني المعيلة الوحيدة لأسرتي".
إصابة أم أحمد أخضعتها لعملية جراحية في مستشفى خاص تلاها عملية أخرى، لكن رحلتها العلاجية ما تزال في بداياتها فهي تحتاج إلى أكثر من أربعين جلسة علاج فيزيائي حتى تتماثل إلى الشفاء، إلا أنها عاجزةٌ عن تغطية نفقات العلاج خاصةً أنَّ الأونروا لا تقر بالمساعدة في مثل حالتها.
حال أم أحمد تلخّص حكاية المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان في حال تعرضهم إلى طارئ صحي، فالفلسطينيون محرومون من تقديمات الدولة اللبنانية الصحية، علاوةً على عدم قدرتهم على العمل في أكثر من سبعين مهنة، بل ان أي مساعدة يحصلون عليها من الجمعيات الأهلية تكون رمزية، ما يجعل العلاج الصحي من أكثر همومهم المؤرقة.


الواقع الصحي للفلسطينيين في لبنان
أظهرت دراسات قام بها عددٌ من الجمعيات المعنية بشؤون اللاجئين في لبنان وجودَ تراجعٍ على مستوى الخدمات الصحية المقدّمة من الأونروا للاجئين.
وأظهرت دراسة أجرتها المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان أنَّ معظم عيادات الأونروا التي يتردَّد عليها اللاجئ الفلسطيني في لبنان تفتقر إلى أدنى التجهيزات الطبية ما يعرقل حصول المريض على العناية الطبية الكافية ويدفعه للتوجُّه إلى العيادات الخاصة ما يرتّب عليه أعباء مادية كبيرة.
ورأت الدراسة عينها، أنَّ عيادات الأونروا تفتقر إلى الأطباء المتخصِّصين وهم في حال وُجدوا يأتون لمرة واحدة أسبوعياً. كما أنَّ التحويلات التي تُعطَى للمرضى الذين يحتاجون لعلاج في المستشفيات لا تكفي نسبةً للعدد الكبير للمرضى، علاوةً على أنَّ السقف المالي المرصود محدّد وينتهي في أغلب الاحيان في منتصف الرحلة العلاجية للمريض.
وتعترف الوكالة بعدد من الثغرات التي تطال الخدمات الصحية ومنها عدم توفر خدمات العناية بالصحة النفسية والعقلية أو بصحة المسنين والمعوقين. وقد سجّلت ثغرات في الخدمات العيادية المتخصّصة والفحوص التشخيصية، إلى جانب محدودية توفر العناية الاستشفائية من المستوى الثاني، وتفاوتٍ بين المناطق في توفر أَسرَّة في المستشفيات. أمَّا بالنسبة للرعاية الصحية من المستوى الثالث، فتسجّل الأونروا وعدم وضوح لحقوق المستفيدين، وعدم تنسيق بينها وبين مقدمي الدعم المالي، بالإضافة إلى عدم تحبيذ المستشفيات استقبال المستفيدين من خدمات الوكالة لارتفاع احتمال وقوعهم في الديون.


انطلاقة الضمان الصحي الفلسطيني
أمام هذه التحديات كان لا بدَّ لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تتحرّك وتجترح الحلول من صلب المعاناة، فكانت فكرة إنشاء الضمان الصحي الفلسطيني لإعانة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
 قبل خروج "م.ت.ف" من لبنان في العام 1982 كانت مؤسسات صامد فاعلة على الأرض اللبنانية، وكان يعمل في مؤسّساتها أكثر من 3000 عامل وموظف. ولكن مع الاجتياح الإسرائيلي وانحسار دور المنظمة اختفى دور مؤسسات صامد ما انعكس سلباً على الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في لبنان على مدى عقود من الزمن، ترافق ذلك مع تدني خدمات جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، مما انعكس سلباً على الوضع الصحي للاجئ الفلسطيني، إلى أن تمَّ إحياء مؤسّسة الضمان الصحي الفلسطيني في العام 2009.
لا يتأخَّر مدير الشؤون الإدارية في الضمان الصحي الفلسطيني في لبنان غسّان عبدالغني في الإجابة عن كل ما يتعلّق بمؤسسة الضمان، فيلخّص المراحل التي مرّت بها المؤسسة، مؤكّداً أنَّ الانطلاقة في العام 2009 كانت لتخفيف المعاناة عن اللاجئ الفلسطيني.
ويلفت عبد الغني إلى أنَّ "المرحلة الأولى شهدت ضمان الشرائح المنضوية بحركة "فتح"، لكن أمام الواقع المتردي للفلسطينيين في لبنان كان لا بدَّ من مساعدة الفلسطينيين باختلاف فئاتهم وألوانهم السياسية". ويعطي عبدالغني مثالاً على ذلك حالة أم أحمد التي ساعدها القيّمون في الضمان بنصف القيمة المادية للعلاجات الفيزيائية التي تحتاجها رغم كونها من خارج أُطُر منظمة التحرير.
ويشدِّد عبدالغني على أنَّ الميزانية التي رصدتها منظمة التحرير كانت في البداية 310 آلاف دولار إلا أنه ونتيجة للأحداث المتلاحقة في المخيمات الفلسطينية تتعدّى الموازنة في كثير من الأحيان النصف مليون دولار. وينوّه إلى أنّ الأفضلية هي دائماً للمنتسبين إلى أُطُر "م.ت.ف"، ولكنّه يتحدّى أن يكون الضمان الصحي قد خذلَ مواطناً جاء في طلب المساعدة. ويوضح أنَّ التفاوت في التقديمات للمدنيين يخضع لاعتبارات عدة وفي مقدّمها حاجة المريض الفعلية إلى المساعدة المادية، وكل ذلك تقرّره لجنة من مجموعة متخصّصين في الشأن الصحي.
 ويؤكّد عبدالغني أنَّ "عمل الضمان الصحي هو عمل إنساني بحت بعيد كل البعد عن التجاذبات السياسية الحاصلة على الساحة الفلسطينية، والمساعدة الصحية لا تميّز بين أبناء الشعب الفلسطيني فالأساس هو الحاجة إلى المساعدة وليس الانتماء السياسي".
وعن العلاقة مع الأونروا يرى عبدالغني أنّها علاقة تكاملية على الرغم من غياب التنسيق المباشر مع الأونروا، ويشدَّد على أنَّ الدور الأساسي هو للأونروا باعتبارها المنظمة الدولية المسؤولة عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، موضحاً أنَّ ما تقصّر فيه الاونروا يأتي الضمان ليغطيه في محاولة لتخفيف القيمة العلاجية عن الفلسطينيين.
وينوّه عبدالغني إلى أنَّ الضمان الصحي جاء ليكسر المفاهيم التي كانت سائدة خلال الثلاثين عاماً الماضية، وهي معركة تغيير مفاهيم بالنسبة لأهمية العلاج والشفافية في العمل والمساواة بين المرضى مؤكّداً أنَّ حالات التزوير التي كانت سائدة في الماضي ولَّت إلى غير رجعة، وهي إن حصلت في الوقت الحالي تُكتَشف مباشرة نتيجة للآليات الصارمة التي اتّبعها الضمان الصحي في تعامله مع المستشفيات.
وإذ يشدِّد على حرص القيادة الفلسطينية على تحويل الأموال في موعدها لالتزامها بمساعدة الشعب الفلسطيني في الشتات، إلا أنّ عبدالغني يُبدي عتبه على بعض الدول المانحة التي تتلكّأ منذ العام 2013 في دفع المساعدات للشعب الفلسطيني ما يرتّب أعباءً كبيرة على القيادة الفلسطينية.


هيكلية الضمان الصحي الفلسطيني بالأرقام
كلام عبدالغني يؤكّده رئيس لجنة الضمان الصحي الفلسطيني في لبنان د.محمد داوود الذي يعتبر أنَّ التزام القيادة الفلسطينية بالوضع الصحي للفلسطينيين في الشتات يشكّل الدافع الأكبر للاستمرار في العمل. لكنّه لا يخفي أنَّ الكلفة العلاجية تتخطّى بأشواط الميزانية المحدَّدة من الصندوق القومي الفلسطيني، وقد تخطّى الدَّين لدى المستشفيات اللبنانية المتعاقدة مع الضمان الصحي الفلسطيني عتبة المليوني دولار اميركي.
لكن د.داوود يرى أنَّ السنوات الماضية كانت كفيلة ببناء الثقة بين الضمان الصحي والمستشفيات اللبنانية نتيجة للشفافية والمصداقية بين الطرفَين. وقد ارتفع عدد المؤسسات الصحية المتعاقدة مع الضمان الصحي إلى 49 مؤسسة تتوزّع بين المراكز الطبية والمستشفيات، وبلغَ عدد التحويلات إلى هذه المراكز في السنوات السبع الماضية 90,000 تحويل، وهو رقم مرتفع جداً ويُظهِر الشفافية في العمل وعدم التمييز بين شرائح الشعب الفلسطيني.
 ويؤكّد د.داوود أنَّ عمل الضمان تطوَّر في السنوات الماضية، إذ ارتفع عدد طاقم العمل من 6 إلى 44 فرداً يغطون كافة المناطق اللبنانية. وبحسب د.داوود فقد وسّع الضمان الصحي نشاطه ليتكفل بـ700 عائلة من العاملين في الهلال الأحمر الفلسطيني.
وعن آلية عمل الضمان الصحي، يشرح د.داوود أنَّ الفلسطيني يمكنه الاستفادة من تقديمات الضمان الصحي عبر التوجُّه إلى مبنى الضمان الرئيس أو إلى المكاتب الإقليمية - لئلا يتكلّف عناء المجيء إلى العاصمة- ويقدّم الكلفة الاستشفائية وتقوم اللجنة الطبية بإجراء التحويلات اللازمة إلى المستشفى المعني.
أمَّا بالنسبة لطبيعة التحويلات والمستفيدين منها، فيشدد د.داوود على أنَّ التحويلات الخاصة بالمدنيين تتراوح ما بين 15 إلى 30% وذلك بحسب تقييم اللجنة الطبية، وبالنسبة للمنتسبين إلى أُطُر المنظمة فالضمان يقدّم تغطيةً بسقف 5000دولار بعد تغطية الأونروا، ومن هنا يرى أنَّ العلاقة مع الأونروا هي علاقة تكاملية بين الطرفَين.


الضمان الصحي خطوةٌ في المسار الصحيح
سبع سنوات مرَّت على انطلاقة الضمان الصحي الفلسطيني في لبنان، سنوات تكلَّلت بالنجاحات بدون تجاهل بعض الاخفاقات، وأثبتت أنَّ الشعب الفلسطيني يجترح من صلب معاناته الحلول لمواصلة كفاحه. سنوات برهنت أنَّ القيادة الصحيحة والشفافة يمكن أن تُثمِر مؤسّسات فاعلة تخفّف من معاناة الشعب الفلسطيني في الشتات ليبقى الأمل في العودة، وعن ذلك تقول أم أحمد بكلماتها البسيطة وعفويتها: "لولا المساعدة التي وفّرها لنا الضمان الصحي لكنتُ اليوم على عتبات المنازل استجدي تكاليف علاجي".