في الحلقات السابقة في مضامين التعبئة الداخلية في تنظيم أو جماعة (الاخوان المسلمين) وفصيل “حماس” الفلسطيني التابع للجماعة، تحدثنا عن المظلومية ولعب دور الضحية، ثم تحدثنا عن فكر المؤامرة عليهم مع إنكار الآخر، ثم في الحلقة الثالثة من الحلقات العشر تحدثنا عن القداسة والولاء، وفي الرابعة من 10 حلقات تحدثنا عن الحصرية مقابل الإقصاء (مدرسة الفسطاطين)، وفي الحلقة الخامسة كانت عن التقية والباطنية والتبرير اما في الحلقة السادسة الحالية فسنتحدث عن الخلط المتعمد بين الحزبي-السياسي والدعوي-العقدي كما يلي:

عندما أمسكت فصيل “حماس” الاسلاموي الاخواني بالسلطة في فلسطين اثر انتخابات عام 2006 (الانتخابات التي انتهت مدتها من أعوام، وفيها خلاف قانوني)، صرح العديد من قادتها ونواطقها أن حكومتهم ربانية ، وأنها حكومة للأبد على نفس نهج ما ذكره الرئيس المصري المخلوع مرسي لاحقا ود.عصام العريان بأن أمامهم زمن طويل ليحكموا، وان الله معهم لاسيما وأنهم (فتية آمنوا بربهم ) وأنهم (الذين ان مكناهم بالأرض أقاموا الصلاة … ) وأنهم في خلط متعمد بين أعمدة العقيدة وبين السياسي المتغير والنسبي. (1)

إن التعبئة الداخلية المقصودة تلك التي تجعل من طريقة الصلاة على يدي الشيخ متبعة بالتفاصيل التي يُربى عليها التابع هي نفسها التي تجعله مستسلما خاضعا لرأيه السياسي، لأن الشخص هو هو ، فما دام قد وثق به ونقل عنه كيفية الصلاة والصيام والزكاة والفتاوى ضمن مفهوم الطاعة العمياء أو (كالميت بين يدي المغسل) أو في (المنشط والمكره) كما يقول قسم الولاء للإخوان المسلمين، وليس للإسلام، فلم لا يثق به عندما يطرح رأيا سياسيا أواجتماعيا أو قانونيا أو موقفا من الحكم ؟!
وهنا بعد أن يستقر في نفس ووعي أو لاوعي الشخص عامل (الثقة) و (الطاعة العمياء) و (الخضوع) و (الالتزام الحديدي) بمسؤوليه/قادته أو شيخه يصبح العقل عملة نادرة ، فعندما يُلغى الحوار والنقاش وتقليب الأمر على أوجهه، وعندما يلغى حق الاعتراض أو حتى التفكير المختلف لا يبقى إلا التسليم والاستسلام ، وتصبح حركة الجُموع مُدارة من خلال (ايمان) ليس بالله ورسوله، وإنما بالشخص المقدس لذي استغل وخلط علمه الديني إن وجد بالرأي السياسي الحزبي فأسقطه حكما شرعيا لا يستقيم.

لقد حملت “حماس” السياسة الحزبية كما هو الحال لدى الاخوان المسلمين على ظهر الدين ، مستغلة التمهيد المرتبط بالعقيدة في نفوض الناس (والتي تعنى هم فقط دون سائر المسلمين المنتمين الى التنظيمات الأخرى، أو أبناء المجتمع عامة) فحرثت وزرعت وحصدت ما تريد في الشأن السياسي المتغير والقابل للاعتراض والرفض والنقد.

الاخوان المسلمين لم يقبلوا إلا القبول لهذا الخلط المقصود منهجا حيث يصبح عمليا الايمان العقدي والسياسي واحد ، والرفض لطلبات التفكير ما يعني الخروج من التنظيم كما حصل مع د.اسماعيل الشطي مسؤول الاخوان المسلمين في الكويت (يراجع كتابه “الاسلاميون وحكم الدولة المعاصرة”)
يقول د.اسماعيل الشطي في لقاء له مع صحيفة الاتحاد الاماراتية في 27 يوليو 2013 (تركتهم –أي الاخوان المسلمين-كي أخرج من ضيق تعليمات التنظيم إلي رحابة الحرية الفكرية “الإخوان” قالوا لي: من يرد أن يعبر عن آرائه الخاصة بحرية تامة فليتفضل بالخروج. وأنا تفضلت بالخروج. . ! لقد عانيت كثيراً من طرح آرائي وأنا مع «الإخوان»، فكان أن توصلت إلى تركهم والتعبير عن آرائي بكامل الحرية بعيداً عنهم.) (2)

وكما حصل مع المحامي (الاخواني السابق) ثروت الخرباوي ولقائه المرشد العام للاخوان المسلمين الذي قال له (أن دخول الحمام ليس مثل خروجه) عندما قابله رافضا أن يكون له رأي آخر! لكنه خرج، وكما حصل مع الوزير في السلطة الوطنية الفلسطينية د.محمود الهباش الذي خرج في الثمانينات من “الاخوان” الفلسطينيين، وكذلك الأمر مع د.خضر محجز، وقبلهم كما حصل مع القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في الخمسنيات من القرن العشرين، وكما حصل مع أبو يوسف النجار و أبو الأديب سليم الزعنون ومحمد راتب غنيم (أبوماهر) وصلاح خلف من قيادات حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح المؤسسين الذين كانوا في شبابهم من “الاخوان” من أجل فلسطين قبل تأسيسهم لحركة فتح عام 1957.

من الممكن أن نعيد الإشارة للشيخ راشد الغنوشي باعتباره من أوائل القيادات الاخوانية التي حاولت فك الروابط بين “العقدي الدعوي” وبين “السياسي-الحزبي الحياتي” وذلك ما أعلنه جهارا نهارا في مؤتمر حزب النهضة التونسي العاشر عام 2016 حيث كان خطاب راشد الغنوشي قد مثل ثورة حقيقية وانقلابا على نهج الجمود والتحجر الاخواني والاسلاموي، رغم تشكيك البعض بصدقيته ما لانظنه تشكيكا في محله، فهو كان خطابا وطنيا بامتياز إذ وضع تونس عاليا فوق مصالح حزبه أو مصالح الأشخاص، وأعلن أن حزبه (وطني ديمقراطي مسلم في إطار الدستور والتطور) ، وأسقط الربط السياسي بالديني.

وذهب الغنوشي ((منذ بداية الخطاب للقول أننا (نميز السياسي عن بقية المجالات المجتمعية كتتويج لمسار تاريخي حيث تمايز السياسي عن المجتمعي والثقافي والدعوي في حركتنا) فأسقط الربط بين السياسي/الحزبي والديني الدعوي الذي رسخه حسن البنا وسيد قطب من بعده وغالب الأخوان المشارقة لانتفاء التوفيق بينهما دون أن يتم استغلال الدين لمصلحة الحزبي السياسي كما أشار بتجرده من المصالح الحزبية في مقابل الوطن.

ولذلك أوضح وأكد-ما نرى عكس ما أكده بوضوح في قطاع غزة/فلسطين للأسف- اننا (حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية ، والنأي بالمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي …).
وفي إطار الرفض لإقصاء الدين، لم يذكر أي ربط للدين مع السياسة كما هو شأن أدبيات الاخوان المسلمين التقليدية، وإنما جعل الربط المطلوب هو بين الدين مع الحياة العامة، وهنا يكون قد أغفل كليا الإشارة للشريعة أو العقيدة أو الأحكام كأساس للتعامل السياسي في الدولة أو بين الأحزاب أو في المجتمع ، جاعلا ذلك التعامل مرتبطا ب(قيم الإسلام) مثل الصدق والنزاهة والشغل باعتباره محرك العمل والتعبئة، وإنها أي قيم الإسلام -وليس العقيدة أو الشريعة…أو الأيديولوجية- كما قال (أدوات حرب المتطرفين) بل دعى لإعادة تأهيل العلماء الوسطيين لدحض التطرف.)) (3)

يقول الكاتب الفضل شلق في صحيفة الحياة اللبنانية (متى استدعيت السماء ولم تأتِ لنجدتهم على الأرض يشتد غضبهم على السماء وعلى من يؤمنون بها من أهل دينهم. يشتد غضبهم على كل من يشارك معهم في الهوية المفترضة. جميع التيارات التكفيرية انبثقت من الإسلام السياسي الذي شكّل “الإخوان المسلمون” بؤرة له. ليس المجتمع الإسلامي بيئة حاضنة للتكفيريين بل “الإخوان المسلمون”، بتفرعاتهم، هم هذه البيئة الحاضنة.) (4)

ويقول الكاتب الكويتي سعد بن طفلة العجمي (للعملية السياسية وفق الحرياتية “=الليبرالية” الديمقراطية قواعد أساسية، وأهمها تنزيه الدين عن السياسة، والسمو بالدين فوق السياسة المتقلبة التي لا تعرف حلالا ولا حراما ولكنها تعرف مصالح متغيرة، بينما بالدين تعاليم إيمانية ثابتة غير قابلة للتغيير والتبديل ولا تعترف بالمصالح الدنيوية العمليانية (=البراجماتية) على حساب تلك المبادئ العقائدية).

ويقول الكاتب الاسلامي اللبناني د.رضوان السيد أصبحت السلطة هي همّ الاخوان المسلمين والتيارات الاسلاموية الرئيس لا الدين، وأصبح الوصول لها يعني أن (دولة الدين هذه) لا تقوم إلا (بالنظام السياسي الذي يقوده الاسلاميون – حسب د. رضوان السيد) سواء باستغلال الديمقراطية أو عبر العنف.

ويضيف رضوان في نقده لما أدخلوه على الفكر الاسلامي بالقول و(تطورت لديها عقائد صلبة أيضاً ما عرفها أهل السنة من قبل مثل القول بفقد الشرعية بسقوط الخلافة والقوانين المدنية) ،والقول (بوجود نظام اسلامي كامل ينبغي تطبيقه تحت اسم تطبيق الشريعة وذلك بالوصول للسلطة بشتى الوسائل)

إن الخلط بين الأصول غير القابلة للنقض في الدين، وبين الفروع المباح النقاش فيها والمخالفة، (5) والخلط بين أسس العقيدة ومقاصد الشريعة الثابتة وبين متغيرات السياسة وتقلبات الأحوال التي تستدعي مواقف قد تظهر متعارضة أو متغيرة استنادا لعوامل عدة تدخل في باب علم السياسة المتغير والعلوم الاجتماعية المتحركة.

إن هذا الخلط مما سعت له التنظيمات الاسلاموية قصدا بادعاءات عامة وشعارات غير ذات مضمون مثل (الإسلام هو الحل) الذي يراه د.اسماعي الشطي الاخواني الكويتي السابق (شعار حق يراد به سلطة باطلة)، وهو الشعار الذي تهاوى على أعتاب الحكم في مصر، ومثل شعار (المشروع الإسلامي) الذي تبين كما يذكر الشيخ نادر بكار من قيادات السلفيين في مصر (حزب النور/السلفي) أن شعار (المشروع الإسلامي) عند الإخوان يعني الجماعة فالجماعة هي المشروع الإسلامي والمشروع هو الجماعة، ما لم يقره لهم ورفضه.

أن خطورة هذا الخلط تأتي في اسقاط (التنزيه) للآراء حيث أن مصدرها هو سبب صحتها، وليس عقلانيتها أو حُجيتها أو تحقيقها للمصلحة العامة ، فمتى جاء الرأي من هذا مهما كان فهو مقبول ، ومتى ما جاء الرأي من ذاك مهما كان فهو غيرمقبول ومرفوض، ومن هنا اصبح (استغلال) الجماهير بهذا (الربط) يحقق مصلحة وفائدة عظيمة استغلتها كثير من التيارات الاسلاموية وطبّقتها وجعلتها في صلب تعبئتها.


الحواشي:

1-يقول سعد بن طفلة العجمي (الديمقراطية ترفض أن تحكم “حماس” الشعب الفلسطيني بكل قواه السياسية ومسيحييه، مثلما فعلت بغزة ثم ألغت الآخرين، وترفض أيضا أن يقفز حزب “الإخوان المسلمين” باسم الجبهة القومية الإسلامية السودانية على السلطة عام 1989 ثم تلغي الآخر بالتحالف مع العسكر الذين أقصوهم بعد ذلك. باختصار، ترفض المبادئ الديمقراطية أن يكون هناك أي حزب يقوم على الدين وحده، لأن ذلك يعني أنه لطائفة واحدة من أهل هذا الدين حسب تفسيرهم له) (من مقال الديمقراطية والأحزاب الدينية في الشروق القطرية 1/10/2013)
ويضيف الكاتب سعد بن طفلة العجمي أيضا (للعملية السياسية وفق الحرياتية “=الليبرالية” الديمقراطية قواعد أساسية، وأهمها تنزيه الدين عن السياسة، والسمو بالدين فوق السياسة المتقلبة التي لا تعرف حلالا ولا حراما، ولكنها تعرف مصالح متغيرة، بينما بالدين تعاليم إيمانية ثابتة غير قابلة للتغيير والتبديل ولا تعترف بالمصالح الدنيوية البراجماتية على حساب تلك المبادئ العقائدية، والقول بأن عزل الدين عن السياسة أساسها غربي بسبب تسلط الكنيسة التي لا يقابلها تسلط المسجد السياسي عندها، مردود عليه لمغالطته الحقائق، ولا يفسر كيف تشكلت أكبر الديمقراطيات بالهند وواحدة من أنجحها باليابان ونموذج ماليزي محترم وآخر إندونيسي رغم تعثره، فلا تاريخ للكنيسة المتسلطة عند هذه الدول! )

2- د.اسماعيل الشطي مسؤول الاخوان المسلمين في الكويت لسنوات طوال وهو المفكر والقيادي السابق في التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» والوزير السابق ومستشار رئيس الوزراء الكويتي الحالي ترك الحركة الدستورية الكويتية (الممثلة للاخوان المسلمين في الكويت) عام 2005 إثر خلاف تنظيمي وفكري، واللقاء المشار اليه في الاتحاد الاماراتية في 27 يوليو 2013 ولك الرجوع أيضا لكتابه النقدي الثمين (الاسلاميون وحكم الدولة الحديثة) من اصدار منشورات الضفاف في الرباط عام 2013
3- يراجع مقالنا تحت عنوان: ثورة الغنوشي البيضاء وسفينة النجاة، على موقعنا الشخصي www.bakerabubaker.info

4- الكاتب الفضل شلق في مقال له في صحيفة السفير البيروتية في 27/9/2013

5-تُعدّ العقائد والعبادات من الأصول في الشريعة الاسلامية الغراء، بينما الامور الحياتية او التي يسميها الفقهاء السلطانية (أي تلك المتعلقة بالسياسة وأمور الحياة الدنيوية والمجتمع والحكم) فهي من الفروع التي اجاز غالبهم التفكير والتقدير والتدبير والتغيير فيها حسب متغيرات المكان والزمان والظرف والموقف، حتى أن أعمال الرسول عليه السلام أصبحت قابلة للاخذ والرد بهذا الشان كما الحال في حادثة تأبير النخل وافتداء الأسرى، والمعارك والاولويات. لكن اعتبار أن الأمور السياسية السلطانية من أمور الدين بمعنى أنها من الأصول جاءت من تلاقي فكر حسن البنا مع قادة الشيعة في الحج، وهم من تشير بعض المصادر بتأثيرهم بتسييس الدين/الجماعة/الحكم، لا سيما أن التراث الشيعي يجعل الحكم وأمور الدين العقدية سيّان أو مترابطان كليا (نظرية “الإمامة” المقدسة لدى الشيعة، ما أصبحت “الخلافة” المقدسة كنظرية نظيرة في الفكر السني،أنظر أيضا حول الفكر الشيعي التقليدي الكاتب قاسم شعيب في كتابه مشهد الفتنة: معارك التأويل في الاسلام الأول، الذي يصر فيه أن الاسلام لا يقوم الا بالدولة والحكم)، ومن هنا اعتبر البنا أن الاسلام دين ودولة متلازمان، أي رابطا ربطا محكما بين الأصول العقدية واساليب الحكم التي يختارها الحزب/الجماعة فيصبحون جميعا بشخوصهم وافكارهم حصريا يمثلون الدين دون مواربة