خاص مجلة القدس العدد 327 حزيران 2016-
 تحقيق:ولاء رشيد

مرةً أخرى يؤكّد الفلسطيني أنه يحملُ معه همومَ أبناء شعبه أينما حطّت بهِ الرحال. ففي قلبِ العاصمة البريطانية لندن، ألهبَت الطفلةُ الفلسطينيةُ ليان محمد حماسةَ الجمهور بخطابٍ بعنوان "عصافير وليس قنابل" عرضَت فيه لواقع المعاناة التاريخية والمعاصرة التي يعيشُها شعبنا الفلسطيني تحتَ نير الاحتلال الصهيوني. لكنَّ هذه الرسالةَ الواضحةَ عن وقاحةِ الاحتلال الصهيوني وممارساته اللاإنسانية أزعجت بعض داعمي الصهيونية، ما دفعَ القيّمين على المسابقة لاستبعادها من الانتقال للمرحلة التالية.

أنا إنسانةٌ..ولا يجبُ أن أضطّر لتذكير العالم بذلك!
وُلِدَت ليان محمد ابنة الخمسة عشرَ ربيعاً في مدينة لندن ببريطانيا لأُمِّ فلسطينية من عين يبرود في رام الله وأبٍ فلسطيني من حيفا وُلِد لعائلة وطنية مناضلة لجأت إلى مخيم البرج الشمالي في مدينة صور اللبنانية اثر النكبة. وفي كنف أُسرة محبّة من أبٍ وأُمٍّ وشقيقةٍ صغرى، نشأت ليان مُشبَعةً بحبِّ الوطن والحنين إليه، إلى جانب شغفِها بالمطالعة وكتابة القصائد باللغة الانكليزية والسياحة والسفر.
وكونَها طالبة مجتهدة في الصف العاشر في مدرسة "ونستد" الثانوية رُشِّحَت ليان مع عدد من الطلاب المجتهدين في المدرسة للمشاركة في مسابقة (Jack Petchey’s Speak Out Challenge)، التي تُنظّمها مؤسسة (Speakers Trust)، وتعدُّ أكبرَ حدَثِ خَطابَة لليافعين في العالم، إذ يشاركُ فيها نحو 18,000 طالب وطالبة ليتحدّثوا بحرية مُطلَقة عن أي موضوع يروقُ لهم. وبتشجيعٍ من أُسرتها ومعلّمتها شاركت ليان في المسابقة التي لم تحمل شروطاً معيّنة تتعلّق بمضمون الخطاب، واختارت تقديمَ خطابٍ بعنوان "عصافير وليس قنابل"، واختيرت من بين 260 طالباً وطالبةً لتمثِّل مدرستها في المنافسة مع المدارس الأخرى ضمن المسابقة الإقليمية لبلدة ريدبريدج.
وأمام حضورٍ حاشدٍ ألقت ليان خطابَها باللغة الانكليزية بشجاعة، فتوجّهت للجمهور قائلةً:"كيف سيكونُ شعورك إذا استيقظتَ كل صباح على صوت القنابل بدلاً من أصوات العصافير والطيور؟ كيف ستشعرُ إذا كنتَ لا تجدُ الأمانَ حتى في بيتك؟ كيف ستشعرُ إذا شاهدتَ عائلتكَ تموتُ أمامَك؟ وإذا واصلوا طوال 68 عاماً قصفَ أرضِكم، وسلبوكُم حقوقكم الإنسانية الأصيلة، وقتلوا عائلاتِكم وأطفالَكم.. ماذا ستكون ردّةُ فعلِكم؟!".
ونوّهت إلى أن العدوان والاضطهاد والجور الإسرائيلي وقتلَ آلافِ الأطفال الفلسطينيين الأبرياء مستمرٌ منذُ العام 1948، وأشارت لاستخدام إسرائيل أكثرَ الأسلحة تقدُّماً في وجه الفلسطينيين العُزّل، مؤكّدة أن الوقت قد حان لإيقاف معاناة أطفال فلسطين.
وأردفت "أنا فلسطينية، وأنا إنسانة..لا يجبُ أن أضطّر لتذكير العالم بذلك!!"، مشدّدةً على ضرورة عدم ممارسة التمييز العنصري ضدَّ أي إنسان بسبب جنسيته أو عِرقه أو دينه.
واستعرضَت أوجهَ المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في الوطن والشتات، فقالت: "كل يوم تُدمَّر بيوتُهم ومدارسُهم ومستشفياتُهم ويبقون بلا شيء، ليس حتى حقوقهم الإنسانية الأساسية. أليس ضرباً من الجنون أن الكلب محميٌّ استناداً لحقوق الحيوانات أكثر من الحماية التي يحظى بها الطفلُ الفلسطيني وفقاً لحقوق الإنسان؟! والآن تخيّلوا أن طفلاً فلسطينياً لاجئاً عمره عام واحد يعاني مرضاً في القلب، ولكن العناية الصحية المناسبة لا تتوافر له لأنه فلسطيني، ما حدثَ أن هذا الطفل مات..ماتَ لأنه فلسطيني.. التمييز خاطئ، وأنا أؤكّد لكم أنه يحصل في مجتمعنا اليوم لأنّ هذا الطفل هو ابن عمي".
وأضافت: "فلسطين هي بلدي وأرضي وبيتي، أوجاعها هي أوجاعي، وحريتها هي حريتي، وأنا أؤمن أنه إذا كانت الحرب قد تحدث في 24 ساعة، فكذلك السلام، لذا أترككم مع أكثر مقولات نيلسون مانديلا إلهاماً (نحن نعرف جيّداً أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين)"، وختمت كلمتها وهي ترفع العلم الفلسطيني قائلةً: "دعونا معاً نقول حرّروا فلسطين".
وحول الدافع لاختيارها موضوع خطابها قالت ليان في اتصال مع مجلة "القدس": "اخترتُ الحديثَ عن معاناة شعبنا الفلسطيني وخاصةً فئة الأطفال لأنني أردتُ عبر هذه المسابقة إيصال رسالتي الى طلاب مدرستي لتوعيتهم عن بلدي فلسطين، وأطفال فلسطين والمعاناة التي يتجرّعونها يومياً".
وبفعل مهارة وإبداع ليان في نقل رسالتها قرّرت لجنة التحكيم بالإجماع منحها المركز الأول ضمن المسابقة الإقليمية المؤهِّلة للمرحلة التالية، وسط تصفيقٍ وتأييدٍ من الحاضرين. وإلى جانب أفراد أسرتها الذين عبّروا عن فخرهم ودعمهم لها، تلقّت ليان التهنئة والدعم وكلمات الاعتزاز والفخر من عدد من الشخصيات البارزة والمرموقة في بريطانيا والعالم العربي، وأبرزها رئيس حكومة دولة فلسطين د.رامي الحمدلله، والنائب السابق في البرلمان البريطاني جورج غالاوي وغيرهم.
مسابقةُ الخطابَة تكمِّم الأفواه!
لم تكد تمضي بضع ساعاتٍ على فوز ليان حتى أخذَ الفيديو الخاص بخطابها ينتشرُ بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية حاصداً العديد من ردودِ الفعل الإيجابية والتعبير عن الفخرِ بنجاحها في المسابقة ونقلها قضية الشعب الفلسطيني. إلا أن بعضَ أصوات الكراهية أخذت بالظهور من الداعمين للصهيونية، وبلغَ أقصاها إقدام مدوّن مغمور يُدعى "إدغار دايفيدسون" على التواصل مع منظّمي المسابقة للاعتراضِ على خطاب ليان، ليُفاجأ المتابعون بحذفِ الفيديو الخاص بليان عن موقع المسابقة الرسمي وعن الموقع الرسمي وقناة اليوتيوب الخاصة بالجهة المنظّمة، بل وبعدم اختيارها ضمن الفائزين الخمسة عشر الذين سينتقلون إلى التصفيات النهائية الإقليمية المؤهِّلة للنهائيات الكبرى والمرحلة الدولية من المسابقة. وفي هذا الصدد توضح ليان: "بعد الانتشار الواسع للفيديو الخاص بخطابي، هُوجِمت من قِبَل اللوبي الصهيوني، وبعدها أزال القيّمون على المسابقة الفيديو وصُوَر فوزي بدون عِلمي او عِلم والديّ. وفي هذه اللحظات كتبتُ تغريدةً عبر موقع "تويتر" تساءلتُ فيها: (لماذا يُطلقونَ عليها اسمَ مسابقة الخَطابَة إذا كانوا يريدونني أن أصمت؟!). لقد كان خطابي موجَّهاً ضدَّ العنصرية والتمييز وينادي بالسلام والحرية، ولكني اتُهِمتُ بالعنصرية وبمعاداةِ السامية فقط لأَنِّي أؤمن بحقوق الإنسان الأساسية!".
وتضيف ليان: "لاحقاً برّر منظمو المسابقة إزالتَهم الفيديو بأنه خطوة اتُخِذت لحمايتي. وأبلغوني أن خطابي لم يقع عليه الاختيار لدخول المسابقة النهائية".
واثر حذف الفيديو وإعلان عدم تأهّل ليان للمرحلة التالية عمّت موجة غضب واحتجاج متابعي المسابقة من مختلَف الجنسيات الذين لمسوا اجحافاً في هذا القرار، وأُطلقَت أكثر من عريضة تطالب بعدم إسكات ليان وبإعادتها للمسابقة، ما اضطّر القيّمين على المسابقة لإعادة رفع الفيديو والخبر الخاص بمشاركة ليان وفوزها، وإصدار بيانٍ مشترك أفادَ أن قرارهم كان بسبب موضوع خطابها، وزعموا أن سبب حذفهم الفيديو هو حماية ليان من التعليقات البغيضة، وأنّ ليان لم تُستبعَد وإنما لم يتم اختيارها ضمن الـ15 المتأهلين لمرحلة النهائيات الكبرى.
ولكن المفارقة في الأمر أولاً، أنه في حال كان سبب حذف الفيديو بالفعل لحماية ليان، فقد كان بالإمكان للمشرفين على الموقع حذفُ التعليقات البغيضة أو تعطيل خاصيّة التعليق. والأهم من ذلك، أنه في وقت سابق للبيان، كان قد نُشِرَ بريد إلكتروني يكشف جانباً مختلفاً للقصة. فقد أرسلت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة (Speakers Trust) جولي هولنِس، بريداً إلكترونياً رداً على رسالة الاعتراض الخاصة بالمدوِّن إدغار دايفيدسون، قالت فيه إن الخطاب انتهكَ قاعدتَين أساسيّتَين للمسابقة وهما "وجوب أن يكون للخطابِ رسالةٌ إيجابيةٌ ومشجِّعة، وألّا يقوم المتحدّث بتوجيه الإهانة أو الإساءة إلى الجمهور أو الآخرين".
وأضافت أن منظمتَي (Speakers Trust) و(Jack Petchey) شاركتَا المدوِّن مخاوفَه، وقرَّرتا بالإجماع "عدم إرسال ليان إلى المرحلة التالية، وأنها لن تلقي خطابها في النهائيات الكبرى"، وفي هذا الرد تناقضٌ آخر إذ ان ليان لم تخرق أياً من القانونَين، إلا إن كان منظمو المسابقة يَعُدّون المطالبة بالمساواة والحرية للفلسطينيين ووقف التمييز العنصري رسالة غير ايجابية، عدا عن أن الحضور صفقوا لها بحماسة بعد إنهائها الخطاب مما يدل على أن أحداً لم يشعر بالإهانة.
وبعد انتشار رد هولنِس الذي كان قد نشرهُ المدوِّن لبيان تجاوب المنظمة معه، صرّحت هولنِس بأنها لم توافق على نشر هذا الرد لأنه كان رداً خاصّاً.
ليان التي دعتها مؤسسات فلسطينية ومؤسسات تُعنى بحقوق الإنسان وبعض الجامعات البريطانية لإلقاء كلمات عن فلسطين بالفترة المقبلة تختم حديثها قائلةً: "ما أردتُ للعالم أن يسمعه هو أنه ليس من الضروري أن يعيشَ الإنسان في أرضه حتى يدافعَ عن شعبه، وأتمنى على كل فلسطيني وبالأخص على أطفال فلسطين في كل مكان أن يُكملوا الرسالة التي حملَها آباؤنا وأجدادنا حتى نحصل على حريتنا وعلى دولة فلسطينية كاملة السيادة مع حق العودة وتقرير المصير.. وباسمي وبِاسم شعبي  أشكرُ كلّ مَن وقفَ بجانبي وآزارني بقضيتي، قضية الحق والعدالة".
أجيالٌ فلسطينية عديدة وُلدِت بعيداً عن أرضها ولكن هذا البعدَ القسري لم يُنسِها يوماً وطنها وإنما زادها تمسُّكاً به وبكل تفاصيله. ومرة أخرى يخرج نموذجٌ من النماذج التي يزخرُ بها أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، كـ"ليان محمد،" ليثبتوا للعالم أن فلسطين ما غادرت يوماً وجدانهم، وليؤكّدوا أن صوتَ الحقِّ لا يمكنُ إسكاته، لأنه سيعرفُ طريقَه للوصولِ لا محالة، وأن فلسطين بإرادة وتحدي أبنائها حتماً ستنتصر.