خاص مجلة "القدس" العدد 326 تحقيق: مصطفى ابو حرب

يوم أعلنَ بن غوريون، من قلبِ الوطن العربي، قيامَ دولة "إسرائيل"، ظنَّ بعض العرب أنهم قادرون على تغيير الواقع، حيثُ دخلوا  بجيوشهم عبر الحدود للأراضي الفلسطينيّة في العام 1948، لكنّهم سرعان ما خرجوا منها مهزومين. بعد تلك الأحداث أُجبرَ 860 ألفاً من أبناء شعبنا الفلسطيني على اللّجوء إلى غزّة والضّفّة الغربيّة وسوريا ولبنان والأردن، ومصر والعراق. ومنذ 14 أيّار 1948، أصبحَ الفلسطيني مشرَّداً لاجئًا، تتوالى عليه النكبات التي ليس آخرها نكبة مخيم نهر البارد أو مخيمات سوريا.

 

أجدادُنا زرعوا فينا الانتماء للجذور

لم تعرِف كفاح ديب الحاج ابنة قرية السموعي والقاطنة في مخيم نهر البارد وطنها فلسطين، ولكن حديث جدها الدائم عنه كان كفيلاً بتجذير انتمائها في ذلك الوطن الذي لم تبصره يوماً حيث تقول: "ولدتُ في لبنان، وعايشتُ جدي الذي كان دائمَ الحديث عن فلسطين وقراها.كان يحدّثني عن الأعراس فيبدأ بسردِ مراحلها من طُلبةِ الفتاة والجاهة للقبول والتحضيرات والعزايم والضيوف من القرى البعيدة وأكياس الرز والخراف على سبيل الهدايا والمساعدة في تحمُّل أعباء العرس وليالي التعليلة والسحجة وليلة الحناء.كانت كلمات جدي ممزوجةً بدمعاته كنتُ أسأله لما البكاء وأنت تسردُ حكايات الفرح، فكان يقول دموع فرحي بالعرسان، ولكنني شعرت بتلك الدمعات وعرفت حقيقتها عندما كبرتُ، وكان جدي قد توفي رحمه الله بأن دموعه تلك كانت دموع الشوق للبيت والديار والحنين لتلك الأيام. لقد شكّلت حكايات جدي الأساس لنا في الثقافة الوطنية والانتماء للجذور، وحفظنا منه أسماء كل القرى والبلدات التي كان يحفظها ويذكرها لنا".

وتضيفُ بألم "كم مرةً قسوتُ عليه بكلمات عتاب واستفسار وسؤال، كيف تركتُم فلسطين كان يجب أن تموتوا هناك ولا تخرجوا منها، كانت كلماته قليلة ولكنها بليغة إذ قال لي: (بِعنا البقرات والمحاصيل واشترينا سلاح.. كانت البرودة بمية ليرة فلسطيني أي ما يعادل ثمن بيت في ذلك الوقت، ولكن ما كانت البارودة لتحميَ الوطن لأن المؤامرة كانت أكبر منا)، وللأسف أدركتُ ما قاله جدي إثر نكبتنا في مخيم نهر البارد حيث وُجِدت البنادق الكثيرة بأيدينا، ولكن مرة جديدة كانت المؤامرة اكبر منا ولم تحمِ بنادقنا سقوط المخيم".

أمّا السيدة رانيا ابو داوود وهي من بلدة شفاعمرو، وتسكن في مخيم البداوي، فتقول: "حبُّ فلسطين كان مرافقاً للحليب الذي أرضعتنا إياه أُمهاتنا، لقد عِشنا في بيوت تمرّست على التضحية والعطاء للثورة، فنمَت بذورُ الانتماء لدي من خلال حديث الأجداد الدائم عن فلسطين والارض والبيارة وغرسات الزيتون، حتى أننا من خلال السرد حفظنا اسماء القرى المحيطة بقريتنا، وهذا ما دفعني للبحث عن هذه القرى، ثمّ عملتُ على نشر صُوَر وأسماء للبلدات الفلسطينية ليتعرّف عليها الشباب والقُرّاء من خلال وضعها في البيوت او الصفوف في المدارس، وهذا من باب إغناء الثقافة الوطنية لأبنائنا وكجزء من محاربة المشاريع التي تستهدف الانتماء الوطني لدى جيل الشباب".

وتختم حديثها قائلةً: "إن إحياء يوم النكبة يأتي كي يعيدَ الكل الفلسطيني الى اليوم الأول للمأساة التي حلّت بشعبنا لتؤكّد بأننا شعب يعيش خارج وطنه إلا أنه شديد الالتصاق بفلسطين".

 

النكبة أدمَت قلوبنا وما زلنا نعيش مرارتها

غادر الحاج محمد أمين رشيد (87 عاماً) قرية صفورية حين كان عمره نحو 19 عاماً، فعاش مرارة اللجوء الأولى، وأسّس حياة عائلية وزاولَ عدة مهن كان آخرها تاجرُ بضائع جوّال في القرى والبلدات المحيطة بمخيم نهر البارد.

وحول وقع النكبة على شعبنا يقول الحاج محمد: "نكبة فلسطين جرحت قلوب كل الفلسطينيين الكبار منهم والصغار لأنها أفقدت شعبنا الهوية الوطنية وبات لاجئاً تتقاذفه الرياح، ولكن أكثر من عاش مرارات الفقد هو مَن كان قد بنى بيتاً، وزرع وحرث الأرض، ثمّ تركها رغماً عنه، ولو أنه مات لكان ذلك أقل وطأةً عليه من ترك أرضه"، ويردف بحرقة وهو يهيم بوجهه محدّقاً بالارض: "الذين حرثوا الأرض ماتوا.. وبقي للأرض غير أصحابها!".

ويتابع حديثه عن مأساة نهر البارد التي كانت شديدة الصعوبة عليه بدورها، فيقول: "فقدتُ جنى العمر الذي ادخرته لشيخوختي من بيت وأثاث ومدخرات كلها ذهبت برمشة عين، وبات العمر والقهر سيفَين على رقبتي. لقد قاسينا مرارة التشرُّد والتهجير مرة أخرى، وما زلنا نعاني منذُ عشر سنوات، وهذه السنون أُضيفت إلى عذابات النكبة والانتظار، واليوم بتنا نتمنّى العودة الى بيوتنا في مخيم نهر البارد، ونقول إنها مقدمة لتحقيق حلم العودة الى فلسطين".

وينهي حديثه قائلاً: "يا بني نحن بعد استشهاد الاخ ابو عمار صرنا أيتاماً على مائدة اللئام. بلادنا كانت بلادَ خير، والجميع فيها أهل وشركاء في الأفراح والأتراح. النكبة التي ألـمَّت بمخيم نهر البارد أفقدتنا البيت، ولكن نكبتنا بوطننا أفقدتنا البيت والأرض والهوية، البيت قد تستطيع إعادة اعماره، ولكن كيف لنا أن نعيد الارض والهوية الوطنية؟!".

وحول خروجه من فلسطين يروي الحاج محمد ابراهيم الحاج حسن "ابو جمال" المولود في قرية شعب العام 1931، "كنا نعيش في مهد عيسى، في أطهر وأشرف أرض في العالم، ارض فلسطين، وكان العرب من جميع الدول يعملون في فلسطين. ثمّ وبسبب مؤامرة دولية وبمشاركة عربية على الشعب الفلسطيني أُخرِجنا من فلسطين، فسكنا نحن في بلدة عين ابل نحو عامٍ ونصف، وعندما حصل انقلاب حسني الزعيم في سوريا ذهبنا الى سوريا، وكنتُ ضمن فوج "اجنادين" بقيادة الاردني ضيف الله عرسان، وكنا 300 مسلّح خضنا في شعب معارك ضد جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، ولكن جاءتنا تعليمات بالانسحاب من قيادة جيش الانقاذ فانسحبنا الى مجد الكروم، ثم الى سحماتا، فدير القاسي، وبعدها إلى الجش حتى وصلنا الى بلدة رميش اللبنانية في 10/10/1948، وبعدها وضعونا في بلدة مسعدة، ثم أقمنا سنة كاملة في الجولان، والحقنا بجيش الانقاذ، ولاحقاً حُلّ الفوج بعد حصول خلاف مع القيادة السورية التي جرّدتنا من سلاحنا.. يومها شعرت بخيبة امل كبيرة، وأحسستُ أن فلسطين باتت بعيدة، وكان الموت وأنا أدافع عن تراب حاكورتنا أشرف لي ألف مرةً من أن تُنتَزَع البندقة من يدي وأُبعدَ عن حدود المواجهة مع العدو الذي احتلَّ ارضي، ولكن لم يكن باليد حيلة. فعدتُ الى لبنان وأقمتُ مع الوالد والوالدة، وانتقلتُ الى نهر البارد، وتزوجت في العام 1950، وعشتُ كل مآسي الهجرة من الخيمة الى إعمار البيت طوبة طوبة، وأسّست عائلة، ثم انتقلت من نهر البارد الى إقليم الخروب في العام 1968، وأسستُ لعمل التنظيم هناك، وعملتُ في جهاز الأمن حتى العام 1982 في الإقليم، وما زلتُ أعمل في حركة "فتح" لغاية اليوم آملاً أن نحقّق حلم التحرير والعودة الذي انطلقنا من أجله، ولا بدّ أن يتحقّق حلم القائد ياسر عرفات بأن يرفع شبل من أشبالنا علم فلسطين فوق مآذن القدس".

ويضيف "عشتُ النكبتين، نكبة 1948 ونكبة البارد. في النكبة الأولى، خسرتُ أرضي والبيت الذي ولدتُ فيه، ولم استطع ملامسة شجيرات الزيتون التي غرستُها في حاكورة البيت مودعاً، وخسرتُ كما باقي الفلسطينيين الوطن بكل ما تحملُ هذه الكلمة من معاني (الهوية والكرامة والأمان)، لكن اليوم في ظل نكبة مخيم نهر البارد بتُ مهجّراً، وما زلتُ أعيشُ مأساة التهجير منذُ عشر سنوات، وهذه المأساة كانت علي أصعب لأنني اليوم أعيشُ فترةً صعبة هي فترة الشيخوخة، فخلال النكبة الأولى كنتُ شاباً، واستطعتُ تحدي كل الصعوبات، وتغلّبتُ على المأساة بالأمل والكد والعمل من اجل العيش والعودة، ولكن في حرب مخيم البارد خسرتُ كل جنى العمر والضغوطات باتت اكبر من الأونروا التي قلّصت برنامج الطبابة، وأوقفت بدلات الايواء وتقديمات الاغاثة، وأنا كالعديد من ابناء المخيم قد بلغتُ من العمر عتيا، وبتُ بحاجة لكل ما ذكرت من الخدمات التي أُوقِفَت".

وبنظرة حائرة وشاردة يقول ابو جمال: "ما زلتُ آمل ان أعود الى شعب وأن أُدفنَ في ترابها، ووالدي حمّلني أمانة أن انقلوا رفاتي معكم اذا عدتم، وبدوري سأوصي أولادي بنقل رفاتي معهم الى شعب لأنه لا بد أن نعود الى أرض الآباء والأجداد. وما زلتُ أحن الى ارضي وبيتي، وما زالت الذكريات تنقلني كل ليلة الى شوارع بلدتي وبياراتها".

ثمانية وستون عاماً وما زال أبناء فلسطين يتمسّكون بالذكريات والحنين.. شاخت تغريبتنا الفلسطينية ولكن عودتنا باتت قريبة، هذا ما يؤكّده كل فلسطيني شيخاً كان ام فتى ومردُ ذلك الى أنه لا يضيع حق وراءه مُطالِب شجاع.