في المقعد الخلفي للسيارة، تجلِسُ وتُيمِّم وجهها ببراءة شطرَ البحر الذي تعشقه حد الهذيان، فيعتريك السؤال، كيف لتلك البراءة أن تتحوّل إلى عنفوان يواجه جندياً مدجَّجاً بالسلاح. وكيف لذاك الخجل المتربّع على وجنتيها أن يستحيل سلاحاً يتحدّى الاحتلال. من أين أتت هذه الفتاة بتلك الشجاعة، لماذا تصر على القيام بذلك. أهو وفاء لاسمها، أم جينات ورثتها عن اجدادها في قرية النبي صالح.

عهد التميمي، تلك الفتاة التي أينعت قبل أوانها، فارتدَت اسمها لتفيه حقه، واضافت إلى هواياتها هوايةً جديدة، هي مقارعة جنود الاحتلال والاستهزاء بهم أسبوعياً.
حكاية عهد تبدأ كما تروي لنا حين خرجت أول مرة في مسيرة " كانت كل البلد تخرج ضد جنود الاحتلال، كنتُ خائفة، وعندما كان الجنود يطلقون الرصاص او قنابل غاز كنتُ أهربُ، في ذلك اليوم لم أتقدّم كثيراً، بقيتُ في الخلف فأنا لا اعرف ما الذي يطلقه الجنود، وكان عمري عشر سنوات في ذلك الحين".

تستحضر الشهداء والأسرى فتقوى عزيمتها
أصبحَ يوم الجمعة بالنسبة لعهد درساً في تعلُّم الشجاعة والتقدُّم إلى الامام، "كل أسبوع أتقدَّم أكثر وأتقدّم أكثر"، تقول عهد، إلى ان كانت تلك اللحظة التي وصلَت فيها إلى جنود الاحتلال وتحدّتهم، وكسرت حاجز الخوف فرآها العالم أجمع وهي تقول للجندي الاسرائيلي "أنا ما بخاف منك"، وأصبح كل يوم جمعة موعداً لها ولأطفال قرية النبي صالح لمقارعة جنود الاحتلال الذين لم يتوانوا عن ضربهم والاعتداء عليهم.
حين تقف عهد امام الجنود فإنها تستحضر "الشهداء ووصيتهم بإكمال الطريق، وأرى صورة الاسرى ونداءاتهم لنا للخروج  ومواجهة الاحتلال من اجل تحريرهم، أرى صور الوطن المحرر، لذلك أقف أمام الجنود لكي اقول لهم إن الوطن سيتحرر والظلم لن يطول".

ضد الاحتلال الذي يريد أن يجزّئ عقلنا
استمرت عهد بالخروج في المسيرات الاسبوعية في قرية النبي صالح ومواجهة جنود الاحتلال ليس ضد جدار او مستوطنة او مصادرة الاراضي، حيثُ تقول: "نحن نخرج ضد الاحتلال الذي يريد ان يجزّئ عقلنا، علينا ان نقاتل المصدر الرئيس للمستوطنات والجدار، فإذا بقيت اسرائيل ستنشئ المستوطنات وتستمر بالجدار، لذا هدفنا هو إزالة الاحتلال".
وكانت الصورة التي هزّت العالم لتلك الفتاة التي تحاول وأمها تخليص أخيها الطفل من بين يدَي الجندي الاسرائيلي. وتستذكر عهد تلك اللحظات قائلة: "خرجنا في المسيرة الأسبوعية وكان جيشُ الاحتلال يعدُّ كميناً لاعتقال أي أحد يستطيع الوصول إليه من المشاركين. كنا نركضُ لتخليص متضامن اجنبي من بين ايدي الجنود عندما سمعنا صراخاً وأشخاصاً ينادون علينا، وعندما وصلتُ رأيتُ الجندي الاسرائيلي يرفع اخي محمد ويضربه بالارض، عندها بدأت بالصراخ على الجندي وقلتُ له، هذا ولد صغير ولم يفعل شيئاً، لكن الجندي كان مصرّاً على اعتقاله، عندها امسكت يد محمد التي كانت مكسورة، لأنني خشيتُ ان تزداد اصابتها، وبقيتُ ممسكة بها إلى ان وصلت امي وعمتي وبنت عمي، وبدأنا بضرب الجندي وتخليص محمد من بين يديه إلى ان وصل الضابط الاسرائيلي وامر الجندي بإفلاته".

جميعهم في المسيرات.. وباب الدار مفتوحاً
قد تتقمصّك الحيرة بتلك الشجاعة التي تمتلكها تلك الفتاة التي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها لكنها سرعان ما تزول حين تعرف أن "العائلة بأكلمها تخرج كل يوم جمعة في المسيرات الاسبوعية، وتترك باب الدار مفتوحاً حتى يستطيع اي شخص يطارده جنود الاحتلال ايجاد ملجأ يحميه منهم". هذا ما اخبرتنا به والدة عهد، ناريمان التميمي، الناشطة التي ما زالت تعاني من إصابة في رجلها خلال مواجهات ضد جنود الاحتلال، والتي كانت قد اعتُقِلت خمس مرات خرجت بعد كل مرة فيها بكفالة مالية عالية، وشروط قاسية كالاقامة الجبرية يوم الجمعة، والمنع من السفر بدون اذن من المحكمة والمنع من المشاركة في المسيرات لكنها تشارك لأنها لا تعترف "بكل هذا الاحتلال ولا أدواته من حاجز ومحكمة وسجن وجدار ومستوطنة".
ربما تكون أم وعد قد منحت أبناءها بعضاً من جيناتها في الشجاعة، وهي التي كان آخر ما صوّرته إصابة أخيها قبل ان يستشهد متأثّراً بجراحه، حين كانت تصوّر لمؤسسة بيت سالم لتوثيق انتهاكات الاحتلال. وقد يكون الاب، باسم التميمي، منحهم إياها؛ وهو الذي اعتُقِل تسع مرات لدى الاحتلال تعرّض في إحداها للتعذيب الشديد ما أدى إلى إصابته بارتجاج في الدماغ ونزيف داخلي دخل اثره في غيبوبة لعشرة ايام وأصيب بحالة شلل نصفي.
ناريمان، أو أم وعد، تنتظر حكم الاحتلال على ابنها وعد الذي يُعتقَل للمرة الثانية، وتعتبر ان خروج ابناء قرية النبي صالح ليس من أجل استرداد نبع القوس فقط، والتي استولى عليها الاحتلال واسماها عين مائير، ويأتي إليها المستوطنون ليتقدّسوا فيها عُراة، بل "من أجل مقاومة الاحتلال، فحتى لو أُخلِيت مستوطنة حلميش، هناك مستوطنات أخرى وحاجز وعدو واحتلال، وعكا وحيفا، واسرى. نحن نقاوم كل وجود الاحتلال على أرضنا".

لستُ مختلفةً عن أي فلسطيني
باستثناء يوم الجمعة فإن حياة عهد كما باقي الاطفال في بلدتها تذهب إلى المدرسة، وتتابع وسائل التواصل الاجتماعي وتلتقي صديقاتها، وتلعب كرة القدم في الشارع، وتدرس "أحياناً"، وتتابع آخر الأخبار وتطورات الانتفاضة.
كما تتعامل مع اصدقائها بشكل طبيعي، وهم يعاملونها "كأي شخص، لأني اريد ذلك، ولا احب ان يعاملوني بطريقة مميزة عن البقية، لأني في النهاية انسان مثلي مثلهم. ننزل معاً إلى المسيرات ويكونون معي حين يُطلق الجيش علينا النار، ولست مميزة عن اصدقائي واهل بلدتي".
لم يتغيّر شيء في حياتها بعد انتشار صور وفيديوهات مواجهاتها مع جنود الاحتلال، فأكثر ما عناها في الموضوع انها استطاعت أن "تنشر في العالم رسالة فلسطين، وأن هناك وطناً محتلاً وأطفالاً يبحثون عن الحرية". وتتابع "جميع الفلسطينيين يفعلون ما اقوم به، الفرق انه كان هناك كاميرا صوّرتني".
هذا الحِمل يرهق كاهل الطفلة في بعض الأحيان حين تشعر باليأس، لكن بعد كل مواجهة يتجدّد الامل من جديد "لأني اعرف ان هذا التعب لن يذهب هدراً، وسيأتي بعده تحرير فلسطين ونصل إلى الحرية وأذهب إلى بحر حيفا وعكا ويافا، وأصلي في القدس، ونجتمع كلنا ونحتفل بالتحرير".

عليكم أن تتوحّدوا وإلا فالشعب سيجد البديل
أينما تحل، تحمل عهد إلى الفصائل الفلسطينية رسالة مفادها "عليكم ان تتوحّدوا وإلا فالشعب سيجد البديل عنكم، لأن الناس ضجرت من الحياة تحت الاحتلال. واليوم نرى ان انتفاضة القدس هي انتفاضة شعبية تضم الجميع، ودافع الشباب بالمواجهة مع الاحتلال لم يكن فصائلياً".
زيارة عهد لمخيمات لبنان أعطتها دفعة معنوية رغم انها أحبطتها في البداية حين رأت معاناة ابناء شعبها من اللاجئين في المخيمات، وكيف هم ممنوعون من العمل أو ترميم بيوتهم وممنوعون من التملُّك في لبنان الذي نعتبره بلدنا الثاني، حيث تقول: "لكن هذا الامر اعطاني المعنويات والاصرار لكي اعود إلى فلسطين، واواجه الاحتلال، وادافع عن قضيتهم من أجل حق العودة".

اريد اكمال دراستي في القانون وأتمنى لعب كرة القدم في برشلونة
هي أينعت قبل اوانها لكن مازالت تحتفظ بالامنيات والأحلام، وترسم مستقبلها على ايقاع حاضرها، فعهد تريد ان تكمل دراستها في القانون كي تصبح محامية، تدافع عن الاسرى وحقوق الشهداء. وما زالت أُمنياتها حاضرة بأن تصبح لاعبة كرة قدم في فريقها المفضل برشلونة، وتحظى بفرصة لقاء لاعب المنتخب البرازيلي نيمار.

مجلة القدس- حوار- طارق حرب