استطاع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يقرع الجرس الفلسطيني في قاعة الأمم المتحدة، مطالبًا وليس مستجديًا، وإنما من موقع الشعور بالمسؤولية، وإدراك حجم المخاطر الملتهبة التي بدأت بالتهام وتدمير ما أنجزته الهيئات الأممية، وما أبدعته شعوُب العالم من محطات مشرقة ممكن أن تشكل منارات في المسالك المظلمة.
الرئيس محمود عباس لم يذهب إلى الجمعية العمومية غازيًا، وإنما غادر أرض فلسطين الجريحة والنازفة، والتي تئن تحت سياط الاحتلال الصهيوني، وتحت القمع الاستعماري الأميركي الذي جاء غازيًا وداعماً لفرض النفوذ الصهيوني على كافة الأراضي. نعم غادر أبو مازن الرئيس الشرعي رام الله ليقول للعالم نحن لسنا ضعفاء، وعندما قبلنا بالسلام، كان ذلك إيمانًا منَّا بتجنُّب المزيد من سفك الدماء، ووضعنا الأمانة بعهدة الأمم المتحدة، كي تكون حَكَمًا عادلاً استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية، وقوانينها.
لقد كان خطاب الرئيس الفلسطيني في الجمعية العمومية هذه المرة مدروسًا، ومستندًا إلى الحقائق السياسية، وشكَّل بدقة رسالة واضحةً للولايات المتحدة، وأيضًا للكيان الصهيوني؛ "إما أن تلتزم إسرائيل بالاتفاقات الموقعة بيننا، أو نخلي طرفنا منها جميعًا". ولا يجوز أن تبقى دولة الكيان الصهيوني فوق القانون، ودون مساءَلة أو حساب.
الرئيس وصل إلى الجمعية العمومية وهو مثقلٌ بالقضايا الجوهرية التي تهمُّ أرضَه، وأبناء شعبه. أعضاء الأمم المتحدة وقفوا احترامًا له، كما وقفوا له سابقًا، وأيضًا كما وقفوا للرمز الشهيد ياسر عرفات، لأن فلسطين لها مكانتها بين دول العالم، وشعوبها، وهي تثمِّن كفاحنا وصمودنا على أرضنا.
إنه في الوقت الذي أنذر أميركا وإسرائيل بالالتزام بما وقَّعوا عليه مع السلطة، وإلّا فإن السلطة الوطنية لن تلتزم بما وقّعت عليه. فالالتزام يُقابَل بالالتزام، وإلّا فالشعب الفلسطيني له موقف واضح. ولمزيد من الإيضاح، والتأكيد، والتركيز، فإن الرئيس ذكّر كافة الأطراف بأنه مُكلَّفٌ رسميًا من المجلس الوطني، الذي هو المجلس النيابي الفلسطيني في الاجتماعات الأخيرة، بأنْ يبلغَ دولَ العالم بأن القيادة الفلسطينية إذا لم تلتزم إسرائيل بما وقّعت عليه، فإنها ستعيد النظر بالعلاقة مع دولة الاحتلال، وتعليق الاعتراف بها إلى حين اعترافها بدولتنا، وأيضًا لأن إسرائيل نقضت جميع الاتفاقات معها، خاصة مضامين اتفاق أوسلو، فنحن نخلي طرفنا منها جميعًا.
الرئيس أبو مازن في خطابه لم يترك قضية من قضايا ثوابتنا الوطنية إلّا ووضعها على المشرحة، وأفهم العالم كل التفاصيل ابتداء من القدس، ومرورًا باللاجئين والأونروا، وسرقة الأراضي وتهويدها في إطار مخطط استيطاني مُدمِّر، كما يحصل في قرية الخان الأحمر، حيث يُصر الكيان الصهيوني على هدم هذه القرية، واستعمار الأرض وما حولها على اتساع عشرين كيلو متراً مربعاً، تصل إلى منطقة البحر الميت، من أجل فصل شمال الضفة عن جنوبها، لتقسيم الضفة انسجاماً مع المخططات المستقبلية المرسومة للتلاعب بوحدة أراضي الضفة، أراضي الدولة الفلسطينية.
الرسالة وصلت إلى كل دول العالم، ونحن ننتظر الترجمة السياسية الفعلية على أرض الواقع، لإنصاف شعبنا الذي يدفع ثمن التراخي، واللامبالاة السابقة التي شاهدناها على مدار السنوات الماضية، مما جعل الكيان الصهيوني يسرح ويمرح، ويقتل ويفجِّر، ويمارس العنصرية بكل تفاصيلها ضد أبناء شعبنا في كل الأراضي المحتلة.
الرئيس أبو مازن هو رأس الشرعية الفلسطينية وهو المنتخَب من شعبه، ورئيس "م.ت.ف" المعترف بها من دول العالم، وهي عضو مراقب منذ العالم 1974، وهو رئيس دولة فلسطين التي هي اليوم عضو مراقب، وأصبحت بشخص الرئيس أبو مازن تقود مجموعة ( الـ 77+ الصين) والتي يبلغ عدد أعضائها 134 دولة، وهم من الدول الصديقة لشعبنا وقضيتنا، وهم اختاروا الرئيس أبو مازن رئيسًا يفاوض، ويتحدث باسم مجموعتهم ابتداء من أول العام 2019.
رغم هذا الاهتمام الدولي، والشعبي العربي وغير العربي، ورغم دعم أبناء شعبنا في الداخل والشتات، إلّا أنَّ فريقاً من داخل الصف الفلسطيني اختار أن يكون معارضاً للرئيس أبو مازن في حراكه الدولي، وفي إنجازاته السياسية والوطنية التي حققها.
نحن نتفهم أن تكون هناك معارضة، لأن الساحة الفلسطينية تشهد مثل هذه الظواهر عادة، لكن ما يؤلمنا اليوم أن تكون ومعركة الرئيس محمود عباس رفيق درب الرمز ياسر عرفات وخليل الوزير، ضد الأميركي الصهيوني ترامب، الذي أخذ قرارات وإجراءات مدمِرة للقضية الفلسطينية، ابتداء من القدس ومرورًا باللاجئين، ثم تكريس الاستيطان، وصولاً إلى القضاء على حل الدولتين، ومحاصرة قطاع غزة، والتنكيل بأبناء شعبنا على حدود القطاع، وفي محافظات الضفة الغربية، والقدس، وما يؤلمنا فعلاً أنه رغم هذه المعركة الطاحنة سياسياً فإن فئةً تختار أن تكون في موقع التحريض، والتخوين، والتجريح، والتشويه، ومن خلال كل الوسائل الإعلامية على القائد الفلسطيني محمود عباس، رئيس دولة فلسطين، حامل لواء الشرعية الفلسطينية، والذي يقول لجميع أبناء البيت الفلسطيني: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا من أجل أن نحمي شعبنا، وأرضنا، ومقدساتنا.
من المؤسف حتى في معركتنا ضد ترامب ونتنياهو اللذين دمَّرا القضية الفلسطينية أن لا نكون صفًا واحداً، ويداً واحدةً، وعلى قلب رجل واحد، وأن نقول كلمةَ حقٍّ نابعة من الوجدان الفلسطيني: إليكَ يا ترامب، ويا نتنياهو، نحن شعبٌ واحد، أصوله واحدة، وعقيدته واحدة، وفلسطين دولته، والقدس عاصمته، نعاهد باسم شهدائنا، وأسرانا، وجرحانا، وباسم كل قادتنا التاريخيين، ياسر عرفات، وخليل الوزير، وأحمد ياسين وأبو علي مصطفى، وفتحي الشقاقي، وعبد العزيز الرنتيسي، وعمر القاسم، وحيدر عبد الشافي، وأبو العباس، وسمير غوشة، وعبد الرحيم أحمد، ومعين بسيسو، والقائمة تطول.. نعاهد شعبنا خاصةً في قطاع غزة أن نبقى أوفياء لفلسطين، ولوحدتنا الوطنية، وأن ننهي الانقسام عاجلاً، من أجل أن نتسلح جميعاً بسلاح المصالحة، ومن أجل أن نعيد بناء نظامنا السياسي عبر الانتخابات الديمقراطية، واختيار مؤسساتها التشريعية، والانطلاق في بناء الإستراتيجية الوطنية الفلسطينية لكي نحطِّم المؤامرة، ونبني دولتنا واستقلالنا، قبل أن تستقوي علينا جبهة التحالف الأميركي الإسرائيلي الصهيونية.
صرخةٌ منطلقةٌ من الوجدان بأنه آن الأوان أن نبحث عن مصير شعبنا وقضيتنا، وأن نجعل فلسطين تاجًا على رؤوسنا، وليس وفق حساباتنا الحزبية، وتحالفاتنا الإقليمية أو الدولية، ومصالحنا الشخصية. فالأمر اليوم في قمة الخطورة وجميع الأطراف جرَّدت سيوفَها، واستلت حرابَها، وتأهبت لخوض معركة الحسم. فالولايات المتحدة أكبر دولةٍ في العالم تمرَّدت على القرارات والقوانين الدولية التي أسهمت هي في وضعها، ووضعت نفسها في خدمة المشروع الصهيوني على الأراضي الفلسطينية. وحكومة نتنياهو اليمينية العنصرية تسلّحت بكل أدوات القتل والجريمة، والإبادة البشرية، والتصفية الجسدية، وتتهيأ لتدمير أقصانا، وبناء الهيكل المزعوم، والعالم جُلُّه معنا، ولكنه ينتظرنا لنقول كلمتنا، هل نحن مع فلسطين الموحَّدة؟ وهل نحن مع إنهاء وطي صفحة الانقسام المدمِّر؟ وهل نحن جاهزون لفتح باب الوحدة الوطنية على مصراعيه؟!
العملية ليست معقَّدة لكنها تحتاج إلى وقفة ضمير...