خطا الرئيس أبو مازن لقاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بعيون زائغة، وخطى متثاقلة، فهو يحمل على كاهله أكثر من ثمانين عامًا صعبة ومثقلة بالهموم والأزمات والتحديات.

ويحمل قضية لطالما كسرت من الظهور، وأطاحت بعروش واسقطت نُظمًا، وتقدم من أجلها طواعية صفوف إثر صفوف من الشهداء الكرماء الذين لم ينساهم أبو مازن في خطابه الصعب رغم تهديدات الإدارة الأمريكية ذات الطابع الدكاكيني بمنع الماء والهواء إن استمر فيض الدعم للشهداء والأسرى، فلم يأبه الشيخ أو الختيار الثمانيني بالتهديدات مطلقًا.

يدخل الرئيس أبو مازن إلى القاعة محاطًا بدعم شعبه، إلّا من ثلة آلت على نفسها البيعة للشيطان، فكانت كمن يفضح زوجته التي اختلف معها على العلن معلنًا أمام رواد المقاهي المنصتين أنَّها كذا وكذا!؟ وإنَّ الأولاد منها ليسوا أولاده؟!

يدخل الرئيس أبو مازن للقاعة فيصيغ عبارتين أساسيتين حتّى قبل البسملة وبدء الخطاب حيث قال: (القدس ليست للبيع وحقوق الشَّعب الفلسطيني ليست للمساومة) وكأنَّه منذ البداية يوضح هدف الخطاب وغايته الرئيسة ردًا على الحلف الصهيوني الأمريكي.

لم يكن الرئيس مرتبكًا ولا زائغ النظرات كما أشار لي أحدهم تعليقًا، ولكنَّه كما لحظت كان يتخير الكلمات من متن نص لم يسعفه إلّا أن يضيف عليه، متوقعًا ردات الفعل ومترقبًا الاستجابة التي لطالما تأخرت كما أشار لهم بعتب وصرخة مدوية.

أبو مازن الذي بدا ولأول مرة مهمومًا إلى حد كبير، بل ومريضًا لم تسعفه كوب الماء على التقاط أنفاسه الحزينة، بدا متعبًا جدًا وهو يحاول أن يلقي خطابًا حمل فيه المجتمع الدولي المسؤولية، فكان ليده اليسرى أحيانًا واليمنى أحيانًا وحركتهما الدؤوبة أن أضفت توكيدًا على ما يريد قوله ولم تسعفه الكلمات في بعض الأحيان، أو صوته الذي كان يتحشرج للحظات تحت وطأة النحنحة أو الكحة.

أشار الرئيس أن يديه والفلسطينيين بيضاء، فالسَّلام هو غاية الذين احتلت بلادهم والحقوق المشروعة، وموضحًا أنَّ من ينظر لنا بطرف عين سنكف عن النظر إليه، في ندية واضحة لم ينحني معها الرئيس أمام عاصفة الإدارة الأمريكية وصفقة عصرها المرعبة، والتي ألقت بمفاتيح الحل في حضن نتنياهو الذي أعلنها مدوية لا دولة فلسطينية في عهدي أبدًا فلا تصرخوا ولا تحلموا.

أبو مازن يعاند ويصارع العالم، كما يعاند ويصارع اعتلال الجسد مما ظهر واضحًا لا تخطئه العين، ولكنَّه مع ذلك ظلَّ واقفًا صامدًا قويًا في وجه العواصف، يحاول أن يظهر قوته من قوة القضية والشَّعب الفلسطيني.

ولم تكن مفاجأة للعرب أو للفلسطينيين حين قال أنَّه يتحدث باسم 13 مليون فلسطيني في العالم، فأعاد النشوة لقلوب اللاجئين، ولطم أولئك الذين يعيبون عليه مقالة قديمة له أنَّه "شخصيًا" لن يعود إلى صفد، ففهموها إسقاطًا لحق العودة، وها هي الملايين ال13 تحدِّق بالخطاب فرحة.

أبو مازن مع كل رشفة من كأس الماء أمامه كان يحاول أن يكتم غضبه، ويحاول ألَّا يثور، ويحاول أيضًا أن يظلَّ متماسكًا، فيوزع نظراته ب"عدالة" على الحضور ليقول أنَّنا قدَّمنا للمفاوضات وللسَّلام كل ما لدينا كما أشار، وأنتم وبعد عشرات القرارات من الجمعية العامة ومجلس الأمن لم تنفذوا منها قرارًا واحدًا، فأين "العدالة"، وما الفائدة منكم، أم (أنَّنا شعب زائد عن الحاجة) تساءل بحرقة!

تميَّز خطاب الرئيس أبو مازن بخصائص ثلاث أولها الوضوح وهو مما يتميز به في كل خطاباته، فكرَّر موقفه الواضح وهو موقف فلسطين الرافض للاحتلال الاستعماري والمطالبة باستقلال الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية وليس "في" القدس الشرقية.

وأضاف إلى خطابه صفة الندية حين تحدث عن الاتفاقيات والالتزام، سواء مع الإسرائيليين، أو الأمريكان الذين مزقوا تعهداتهم المكتوبة لفلسطين.

وفي التبادلية ندية تذكرني بما كان الشهيد هاني الحسن قد اختطه في محاضرة له تحت عنوان "نحن والإسرائيليون وثقافة السّلام" عام 2007 إذ حدَّد حينها 3 أسس هي: التسامح والحوار والندية.

لم يكن في ذهني أن تكون للأمور الداخلية الفلسطينية نصيب على منبر الأمم المتحدة فهي شأننا، ولا يضير العالم ألَّا يسمع بها في ظلّ أنَّ ما يهمنا هو إظهار وحدة الموقف الفلسطيني، وهو ما كان وعبَّرت عنه الجماهير، رغم وجود المعارضة وهي شأن صحي حينما لا تنجر كمعارضة إلى فجور الخصومة أو إلى مثلث التعهير والتخوين والتكفير كما حصل من القلة المتسخة ملابسها بسخام الأنظمة والأفكار الإقصائية.

ختم الرئيس خطابه بالقول (إنَّنا على موعد قريب مع فجر الحرية والاستقلال، وإنَّ ظلم الاحتلال إلى زوال بإذن الله).

أبو مازن بصبر وثبات وإيمان، وخلال 38 دقيقة ثمينة، وبقليل من النحنحة وضع إيمانه بالله وبعدالة القضية وبقوة الشَّعب في كفة، ووضع العالم في الكفة الثانية مستصرخًا وداعيًا للإجابة وإلَّا فإنَّ الحج السنوي لمنبر الأمم المتحدة لا ثواب يُرجى منه بعد يومي هذا، ولا تطهير ذنوب، ولا وعود بالجنة.