سياسة ردة الفعل الانفعالية المصحوبة بقدر غير مسبوق من الغطرسة، وأحادية النظرة، وضيق الأفق، التي تمارسها الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب ، تؤثر بشكل سلبي متراكم ضد أميركا نفسها التي شتان بين صورتها عندما دخلت المنطقة والعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وصورتها الآن، حيث أصبحت نموذجا لسوء الفهم، وإثارة قدر كبير من الفوضى والتوقعات السلبية، وكل من لا يتوافق بالكامل مع هذه السياسة العدائية المتغطرسة، يجد نفسه أمام تهديدات خطيرة، واستعصاء الحوار، وفقدان كل عناصر الثقة والطمأنينة في هذه السياسات التي لا تستثني الصديق أو العدو، القريب أو البعيد، فالجميع عند أميركا متهم ومحاصر بالشك والعداء والتحريض. دون أن تنجح إدارة ترامب في تبرير هذا السلوك المتغطرس والمعادي، سوى أن أفكار هذه الإدارة حين تلامس الواقع يتم اكتشاف عيوبها، وفجواتها الرئيسية، وانحيازاتها الخاطئة والعمياء، وبدل أن يتم اكتشاف الخطأ الفادح وبالتالي التراجع عنه، فإن أعضاء إدارته الذين اختارهم من نوع معين، يصفقون للأخطاء، ويشنون حربا شعواء ضد كل من لا يتساوق معها.

وهكذا جاء الدور على أقدم القضايا، وهي القضية الفلسطينية التي يتم التداول بها بأسماء ورموز عديدة، مثل قضية الشرق الأوسط، والصراع العربي الإسرائيلي، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد دخل ترامب على هذه القضية من باب نفي المعرفة، ونفي التاريخ ونفي الواقع، والاعتقاد الشائن بأن أميركا هي الأقوى، وبالتالي فإن ما تريده لابد أن يصبح حقيقة، دون النظر بعمق إلى التركيب المعقد والشامل لهذه القضية التي تحتاج إلى فضاءات أوسع من الوعي.

القضية الفلسطينية، نشأت أول مرة في المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بازل على يد ثيودور هرتزل، الذي جعل الصهيونية تركب إحدى اكبر الموجات الاستعمارية في ذلك الوقت ونموذجها الإمبراطورية البريطانية التي لأسباب كثيرة أدى تدخلها إلى إنتاج وعد بلفور، وأدى احتلالها لفلسطين إلى محاولة تحويل وعد بلفور إلى حقائق مفروضة على الأرض، سرقة أراض وتحويلها إلى مستعمرات، وتبنٍ مطلق لروايات الشتات والحنين اليهودي، بأن هؤلاء اليهود كانوا هنا وغابوا فقط ألفي سنة وهم الآن يعودون ليس إلا، والإجابة عن كل سؤال صعب بالادعاء بأن (يهوه) الإله اليهودي أعطى وعدا لهم.

وكل ذلك أدى إلى صعود الخرافة إلى حد صنع النكبة في العام 1948م، وتشريد الشعب الفلسطيني بقوة العدوان، بالحديد والنار والتواطؤ، وهو ما أدى إلى إنتاج القضية بشكلها الحالي، بكل مفرداتها، احتلال قديم وجديد، واستيطان بأشكال مختلفة، وسرقة الأرض بشكل يومي، لاجئون في المنافي تكاثروا بالملايين، وقراءات دولية، ومؤسسات دولية، ورؤى عديدة تجسد هذه القضية.

مشكلة ترامب انه بدا دون التعامل مع أي حقائق، هو رأى ما يناسب خبراته وثقافته ومعرفته، وهو قرر من جانب واحد بناء على تقديرات الإدارة التي جاء بها التي تعيد إنتاج أفكاره دون مجهود، وردة الفعل حين يجد نفسه وضع العربة أمام الحصان، فالعربة لم تتحرك، والحصان مشلول الساقين، وبدل أن تكون ردة فعل ترامب ضد من خدعوه، وضد من وعدوه، وضد من صفقوا له وورطوه، كانت ردة فعله، ضد الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية وضد العالم الذي يملك بالنسبة للقضية وعيا وتجربة مختلفة، هذا هو مأزق ترامب، منفعل لأن الحقيقة لا تتواءم مع أفكاره، ولأن القضية أوسع من مداركه، ولأن العالم في موقع المعرفة أكثر منه لذلك لم يوافقوه، والنتيجة بدل أن يعاقب من ورطوه في الأخطاء، فإنه يواصل العناد الفارغ.