الخان الأحمر، عنوان جديد في النضال الأسطوري لشعب يرفض الانصياع للنفي والتشريد، ويواجه كل أشكال الإلغاء، جسديا ومعنويا، وتجويعا ومرضا.. ويواجه بالمقابل، أشكال اغتياله، بابتداع أشكال للمقاومة، متميزة بفرادتها، مدفوعة برباط مقدس مع تراب أرضه الطيبة.

نستطيع اليوم، وعلى ضوء مجريات الأمور، فهم وتصوّر ما جرى العام 1948، من تآمر دولي وبعض عربي، على سلب الفلسطيني أرضه، وتقديمها قربانا للجشع الصهيوني. لم نعرف حتى الآن بشكل موثق، دور الجيوش العربية في حرب تحرير فلسطين من الفلسطينيين. وإن كنا ندركها ونسمع حكاياها من الكبار الذين وعوا الوطن.

واليوم نشهد الجزء الثاني والأخير من مسلسل الاحتلال والاستحواذ، هذا الجزء ليس حديث الولادة، لو تتبعنا تفاصيله منذ عام النكبة. فقد ظن المحتل، أن النفي من الجغرافيا، مهمته الأولى، وتتكفل المنافي وحياة التشرد والإذلال العربي، ومنهجية التفقير، كفيلة بإتمام عملية الاغتيال! ولا تخفى على الإعلام وسائل قمع الفلسطيني منذ بداية النكبة، وقبل أن يصحو من صدمة اللجوء!

أما على صعيد الموقف الرسمي العربي، فهذه بعض النماذج، في العام 1947، وفي جلسة الأمم المتحدة المخصصة للتصويت على قرار تقسيم فلسطين، رفضت بعض الوفود العربية، طلب الوفد الفلسطيني الاتصال بدول الكتلة الشرقية، للتصويت على رفض المشروع. وأعلن السبب صراحة: لن نصبح شيوعيين من أجل فلسطين!

جلسة الأمم المتحدة العام 1952، وفي زمن أمينها العام النرويجي "تريغفي لي"، تم نقل ملف القضية الفلسطينية من ملف سياسي، إلى ملف إنساني، لمجموعة من اللاجئين، جلّ احتياجاتهم بعض الطحين والسكر والأرز المسوّس! ولا ندري أن أحدا تصدّى للمشروع لإسقاطه، بل مرّ بسلاسة.

سياسة الإذلال التي تعرض لها الفلسطيني، من انتهاك لكرامته، وحرمانه من الحصول على تأشيرات التنقل بين الدول العربية، لزيارة العائلات التي تبعثرت خلف حدود شديدة القسوة في ظلمها. قصص الفلسطيني مع الحدود والمطارات والموانئ، غير مقبولة ممن لديه الحدّ الأدنى من المشاعر الانسانية.

ثم كان ما سُمي ظلما "الربيع العربي". وسبقه بقليل ظهور أصوليات متصهينة، لتكون إحدى أدوات التدمير، للعديد من الدول العربية، التي لم ترتبط بمعاهدة إذلال مع المحتل الصهيوني. هذه المرحلة لم تأت بترامب مصادفة أو عفوية، رئيسا للقطب الأوحد في العالم. فشخصيته تتناسب تماما مع سياسته وطريقة إدارته لسياسة بلده الخارجية. ربما لا يذكر كثيرون، قضية طلاقه من زوجته الأولى، والمليارات أو الملايين، التي اضطر لدفعها مرغما لطليقته. وها هو يمارس فرض الجزية. ويجاهر بسرقة نفط الدول العربية، ولا يعترف بالعراق بلدا، بل يعتبره طوائف متقاتلة.

حالة التشوش والإرباك التي تسبب بها "الربيع العربي"، خلقت حالة هستيرية، لدى أقطاب رئيسية. أولها الإدارة الأميركية الترامبية، ففي سياسة هستيرية غير مدروسة، أو محسوبة العواقب، تسارع بإعلان القدس عاصمة أبدية للكيان المغتصب، ونقل السفارة من تل أبيب الى القدس. إعلان شرعية إقامة المستوطنات، باعتبارها مشاريع إسكانية. ثم إغلاق مكتب ممثلية فلسطين في الأمم المتحدة. ويعلن ترامب وقف دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، مع الضغط على دول أوروبية، للسير على خطاه. عملية تقليص خدمات "الأونروا" كانت مبرمجة وممنهجة، وحان وقت إعلان وفاتها، لشطب حق العودة، والحديث عن عملية توطين الفلسطيني حيث تواجد، وهو مشروع طرحه كيسنجر منذ سنوات بعيدة. وإن تأكدت التسريبات، فإن بعض الدول العربية ستقوم بتمويل عمليات التعويض، للدول المضيفة على حساب الفلسطينيين.. في بداية الهجرة، قبضت الدول ثمن استضافتها للفلسطيني، وبعد سبعين سنة، يتم بيع أرضه وحقه في العودة! ما زالت القضية الفلسطينية هي التجارة الرابحة، لأطراف عدة.

هذا الدعم اللامحدود للمحتل، أثار لديه شهوة القتل وهستيريا تدمير بيوت الفلسطينيين وقراهم، أو مصادرتهما وموجات الاعتقال، وبضمنها اعتقال الأطفال وترهيبهم. المحتل يعلن أخيرا، مشروعه الديني، في قانون القومية العنصري. ويلقى الدعم من دول تتغنى بنظامها اللاديني والإنساني، ومفهوم المواطنة.

وفي هستيريا تحدي الموت والقمع، وإعلان التجذر بالأرض، يبدع الفلسطيني في ابتكار وسائل المواجهة والتحدي، بالمتاح لديه من إمكانيات متواضعة لكنها تثير قلق المحتل. موقف الشعب المتشبث بأرضه، يتماهى مع الموقف الدبلوماسي الفلسطيني، الرافض لقرارات تصفية القضية، وإسقاط حق العودة. الوضع السائد من الانفلات الأخلاقي والإنحلال الانساني، لا يجابه الا بالوحدة الوطنية، وإسقاط المشاريع الدينية، وعودة بوصلتنا الى مجراها الصحيح.. صوب الوطن.