منذ الرابع عشر من حزيران الماضي، دخل الانقسام الأسود عامه الثاني عشر، محدثاً للشَّعب الفلسطيني وقضيته العادلة ونضاله البطولي أضرارا لا توصف، دون أن تستفيد حماس شيئاً من وراء هذه الأضرار الحتمية، بل على العكس من مقولات جوقات الضجيج في حماس، فإنَّ ما كانت تتمتع به من ثقة قد أضاعته إلى حد الصفر في رهاناتها وأدوارها التي تلعبها، وضد قطاع غزة الذي ولد بشكله الحالي من قلب النكبة، أي الشريط الضيق المختنق بين الماء والصحراء الذي يتعرض للحصار منذ وقوع جريمة الانقلاب والانقسام التي حدثت بينما كانت حماس تحتل رئاسة حكومة الوحدة الوطنية، وكانت الآمال عريضة بأن نكرس نموذج الديمقراطية الفلسطينية، وأن نجعل من قطاع غزة الضيق شحيح الإمكانيات والمكتظ بسكانه، نموذجا لامعاً للتعايش والإبداع وتركيز الملامح الفلسطينية.

ولكن إسرائيل عدونا المركزي الأول، تفاجأت إلى حد الصدمة، بقبول الشرعية الفلسطينية بنتائج انتخابات 2006، وانتصار نموذج الديمقراطية الفلسطينية، فردَّت على ذلك بنموذج خطير من نماذج السلوك السياسي، حين انسحب شارون من القطاع انسحاباً أحادي الجانب، وأغرى حماس بما كان يريده، الهروب من كل التزاماته، وتشجيع حماس على الانقلاب والانقسام وتوابعهما الكارثية المستمرة حتَّى يومنا هذا.

وقوع حماس بسهولة في الحفرة القاتلة له أسباب عديدة، أولها البصمة الوراثية، فحماس جزء من تنظيم الإخوان المسلمين، بل هي أضعف حلقاته، ولم تستطع أن تحقق لنفسها أي هامش خاص من أجل القضية الفلسطينية التي تحتاج لهذه الخصوصية، فأخذت من التنظيم الأم أبشع ما فيه، وهو الاندياح نحو دور الأداة العمياء، وتاريخ الجماعة الأم في مصر معروف بل تاريخها في كلّ المنطقة، الوقوع بسهولة بين براثن الأعداء للعب الدور البشع ضد الدولة الوطنية حتَّى ولو كان منشئوها هم من رموز الآمة مثل جمال عبد الناصر، أو دولة الثورة الجزائرية النموذج، حتَّى وصل الأمر إلى فلسطين بنكبتها وثورتها المعاصرة ردَّاً على هذه النكبة، فبقي الإخوان المسلمون في فلسطين قرابة ربع قرن خارج هذا الانسياق الفلسطيني ومعادين له.

أمَّا السبب الثاني فهو سهولة الوقوع في الإغراءات الوهمية القاتلة، ويكفي القول إنَّ حماس وقعت في إغراء الانسحاب الإسرائيلي وشكَّلت عائقاً، أمام استمرار التقدم الفلسطيني نحو الهدف العظيم وهو إقامة الدولة الفلسطينية.

ابتداءً من العام الماضي، في شهر تموز، بدأ الصراع بيننا وبين الاحتلال الإسرائيلي يأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، ويحتاج من الطرف الفلسطيني بالإضافة لأدائه العميق، درجة أعلى وأوسع من الذكاء، لأنَّ إسرائيل اكتملت فيها الظروف داخلياً على مستوى علاقتها مع أميركا إلى إحداث القفزة الجديدة، ليس إنهاء الاحتلال، وإنَّما تكريس هذا الاحتلال ورفض تسميته احتلالاً، بل عودة اليهود إلى أرضهم، وقد بدأ ذلك في القدس على خلفية التحرش في المسجد الأقصى وتركيب البوابات الإلكترونية وبقية التفاصيل المعروفة، وقد خاض الشَّعب- شعبنا في القدس- في ظل قيادته الشرعية معركة قاسية، ومركبة بأعلى المعايير، فقد انكشفت إلى حد الفضيحة نوايا الائتلاف الذي يقوده نتنياهو، وتطور الأمر إلى انكشاف العلاقة مع حليف إسرائيل الجديد وهو دونالد ترامب بمحيطه اللصيق به وهو المسيحيانية اليهودية، بمعنى أنَّ ما هو إسرائيلي سيصبح أميركيا، ولا بد من مواجهة ذلك ببناء جدار قوي حول قضيتنا يحميها من الأخطار، فليس سهلاً أن تنتقل أميركا فجأة من كامل دور الوسيط إلى كامل دور العدو، وقد نجحت قيادتنا الشرعية التي يقف على رأسها أبو مازن في بناء هذا الجدار الدولي دبلوماسياً، وقانونياً وسياسياً ومقاومة شعبية، وتبين هذا النجاح بشكل علني وكبير في مجلس الأمن والجمعية العامة، ومجلس حقوق الإنسان، وفي مجال المقاطعة الأممية، والعلاقات الثنائية، وكان هذا النجاح حاضراً قوياً لاستئناف خطوات المصالحة باعتبار ذلك شيئًا بديهيا، ولكنَّ حماس بدلاً من ذلك لجأت إلى التهرب والمخاتلة والخداع، وخلق فجوات وثغرات في هذا الجدار بدل أن تضيف له مداميك جديدة، كما جرى في ترتيب الانفجار ضد موكب رئيس الوزراء، وابتداع أساليب جديدة للتهرب من تنفيذ بنود المصالحة وأولها التمكين الحكومي، إذ كيف للحكومة أن تنفذ برامجها في أي اتجاه وهي ممنوعة بالقوة وبجوقة الأكاذيب من التمكين.

نعتقد أنَّ جولة العنف الجديدة التي اندلعت إسرائيلياً في غزة وحولها مؤخراً انتهت مؤقتاً لكي تؤكِّد أنَّ كل ما تهرب حماس إليه ليس سوى أوهام، وأنَّ العدو هو العدو، وأنَّ بقية الأطراف المحرضة لا تستطيع أن تعطي حماس ما يمكن أن تعطيه لها الشرعية الفلسطينية: شراكة فاعلة، تعميق الديمقراطية، تحصين الحق الفلسطيني، وبناء النظام السياسي المأمول، كيانًا فلسطينيًا واحدًا بقانون واحد بسلاح شرعي واحد نحمي به أمننا الواحد.

الجهود المصرية المستمرة، والهمة الفلسطينية موجودة بأعلى درجاتها، المهم أن تتخلى حماس عن لطختها الوراثية وأن تؤمن أن فلسطين لا ينفع معها سوى أن تكون أولاً مع فلسطين، وليس مع تسريبات وأوهام الآخرين.