تواجه دولة الاستعمار الإسرائيلي منذ قيامها في أعقاب نكبة الشعب الفلسطيني في أيار/ مايو 1948 أزمة تعريف ذاتها، وهويتها، بسبب واقعها الكولونيالي، ورفضها لتحديد حدودها، وإصرارها على مواصلة مشروعها الصهيوني، رفضت قيادتها الأولى صياغة دستور يحدد طبيعتها، وعلاقاتها مع ذاتها، ومع أبناء الشعب الفلسطيني، الذي احتلت أرضه، وسعت لنفيه، وطمس هويته وشخصيته ومكانته، ومع دول الجوار والعالم، وحتى لم تتمكن من تعريف من هو اليهودي حتى يومنا هذا. وتركت قياداتها المتعاقبة ملامحها ضبابية وهلامية لاعتبارات تخدم المشروع الاستعماري الصهيوني، غير ان أبناءهم وأحفادهم غرقوا في وحول مستنقع التعريف، فلا هم قادرون على تبني إضفاء الصبغة الديمقراطية على الدولة، لأن مركبات المشروع الاستعماري تتناقض تناقضا جذريا مع ذلك، ولا هم راغبون بالتخلي عن البعد الديني والطائفي لدولتهم الاستعمارية، ما أوقعهم في شر قوانينهم العنصرية والفاشية.

لذا يلاحظ أن إسرائيل الاستعمارية في كل مرحلة من تطورها اصطدمت بالحقيقة المرة، في كونها لم تتمكن ولا للحظة من التماثل مع ما ادعته عن ذاتها كدولة "ديمقراطية ليبرالية"، رغم أنها فصلت "ديمقراطيتها" العنصرية على مقاس مشروعها الاستعماري، تلك الديمقراطية، التي خصت بها المستعمرين الصهاينة الغربيين "الإشكناز"، وحرمت الأقلية الفلسطينية العربية واليهود الشرقيين "السفارديم" بتفاوت منها، حتى باتت ديمقراطية مسخ، ولا علاقة لها بمعايير الديمقراطية البرجوازية، رغم كل تشوهاتها.

فأمست تلك الديمقراطية الشكلية، تشهد تراجعا شديدا لدرجة الاضمحلال مع تعمق العنصرية، وصعود التيارات اليمينية والحريدية المتطرفة لسدة الحكم، ومع استباحة القانون، وإعادة صياغته وتشكيله وفق مشيئة القوى الفاشية المتسيدة في رأس السلطة ليتواءم مع التخندق في خنادق الاستعمار الإستيطاني. فتداخل الخطاب الشعبوي العنصري والفاشي مع الخطاب الديني اللاهوتي المتزمت، ما أسقط عن دولة الاستعمار الإسرائيلية ورقة التوت الديمقراطية، التي حاولت طيلة العقود الماضية التستر بها.

ومع طرح مشروع قانون "القومية"، قبل ثلاثة أعوام خلت، والمفترض طرحه اليوم (الإثنين) للمصادقة عليه بالقراءتين الثانية والثالثة، إن لم يتم وقفه بسبب الاحتجاجات من قبل الرئيس الإسرائيلي، ريفلين والمستشار القضائي، مندلبليت، ونائبه نزري والنخب السياسية والأكاديمية، التي اعتبرته قانونا عنصريا، فإن حكومة الائتلاف اليميني المتطرفة، وكتلها في الكنيست تكون أماطت اللثام كليا عن الوجه الحقيقي للدولة الاستعمارية الإسرائيلية، ليس كدولة عنصرية فقط، بل دولة فاشية. لا سيما وأن مشروع القانون المذكور لم يميز بين اليهود الصهاينة والفلسطينيين العرب، بل بين اليهودي واليهودي الآخر على أساس الانتماء الحزبي، وبين اليهودي الليبرالي واليهودي الحريدي، بالإضافة لما هو موجود بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين. كما واصل عملية التمييز ضد اللغة والثقافة العربية. وعمق خيارات العنصرية من خلال تبنيه حق إقامة بلدات ومدن خاصة باليهود فقط، أي على الأساس الديني، وهو ما وصفه بعض الإسرائيليين بـ"حق تقرير المصير الديني"؟!

والمفهوم الأخير محاولة مقاربة لعملية تقرير المصير بما تحمله من مثالب خطيرة على مستقبل الدولة، حيث شاء مستخدموه إبراز الخلل البنيوي العميق في تركيبة القانون، وما يمكن أن ينتج عنه من انعكاسات وارتدادات سياسية وقانونية داخلية وإقليمية ودولية، توقع دولة الاستعمار الإسرائيلية في شر خياراتها العنصرية والفاشية، ويحول بينها وبين إمكانية الدفاع عن ذاتها، كما كانت تفعل فيما مضى بعد قيامها وإلى زمن قريب.

ولعل المعركة لم تقتصر بين أحزاب الائتلاف والرئيس الإسرائيلي، بل امتدت لتطال الاتحاد الأوروبي، وهذا ما كشفته "شركة الأخبار" (القناة الثانية سابقا) باتهام بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة ممثلي الاتحاد الأوروبي بالتدخل في الشؤون الداخلية الإسرائيلية، بعد أن عقد مانويل جوفري، ممثل الاتحاد لقاءات مع عدد من أعضاء الكنيست من أحزاب الائتلاف (جلهم من الليكود) وطالبهم بالامتناع عن المصادقة على القانون بصيغته الحالية، وحذرهم من الآثار المترتبة على تمريره". ما آثار حفيظة زعيم الائتلاف الحاكم، الذي أوعز لمدير عام الخارجية الإسرائيلية يوم الخميس الماضي "باستدعاء سفير الاتحاد الأوروبي للقاء توبيخي ثان." ليس هذا فحسب، بل ان مكتب نتنياهو اصدر بيانا، اتهم فيه "الاتحاد الأوروبي بتمويل جمعيات أهلية تعمل ضد إسرائيل، وتمول بناء غير قانوني، ويتدخل الآن في تشريع القوانين في إسرائيل." وتابع "يبدو ان الاتحاد الأوروبي لا يفهم إن إسرائيل، هي دولة ذات سيادة."

يوما تلو الآخر الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم يأخذ إسرائيل الاستعمارية لموقعها ومكانها الطبيعي كدولة مارقة وفاشية دون رتوش أو مساحيق، وهو ما يدعو كل انصار السلام في إسرائيل والعالم لمواجهة دولة الإرهاب الإسرائيلي المنظم لحماية شعوب المنطقة وخاصة الشعب الفلسطيني الواقع تحت نير الاستعمار من الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الإقليميين، ونزع فتيل تفجير الإقليم ككل.