منذ البداية أكدت، كما أكد علماء الاجتماع وفلاسفة عصر النهضة أن النظام البرجوازي أَصل لوجود الديمقراطية، وحرية البيع والشراء لقوة العمل، وسمح بالمزاحمة والمنافسة الحرة في السوق الوطني بين السلع والبضائع المختلفة، وخلق شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية جديدة، وأوجد ركائز لبناء معالم قوى وعلاقات إنتاج مختلفة تماما عن تلك، التي كانت قائمة في عصر الإقطاع. ولم يكن للنظام البرجوازي أن يحقق الربح وفائض القيمة دون وجود الحرية والديمقراطية. بتعبير أدق الديمقراطية والحرية، هما أداتا النظام في تحقيق ذاته. وهما مصلحة برجوازية خالصة، ولم يكن وجودهما كرم أخلاق من سادة النظام الجديد، أو حرص على حرية المواطنين من مختلف الفئات والشرائح والطبقات الاجتماعية وخاصة أولئك الفلاحين الأقنان، الخارجين من براثن عبودية وسخرة النظام الإقطاعي المتعفن، إنّما كانت مصلحة أهل النظام كي يدفعوا قطاعات الفلاحين المسحوقين للهرب من قهر واستعباد الإقطاع إلى حاضنة قوى الإنتاج الجديدة في المصانع البدائية ومناجم الفحم وغيرها.

ودون استطراد حول نشوء البرجوازية، وتلازم انبثاقها من رحم النظام الإقطاعي مع الحرية والديمقراطية، فإن الضرورة تملي تسليط الضوء هنا على التشوهات، التي حملتها وتحملها الديمقراطية، وخطر تلك التشوهات على العملية الديمقراطية نفسها.

أولاً: الديمقراطية البرجوازية، هي ديمقراطية وظيفية استعمالية، لها مهمة واحدة، هي خدمة وتطور النظام البرجوازي، وتأمين الربح البدائي ثمَّ الاحتكاري في مرحلة الإمبريالية، وبالتالي بقدر ما شكَّلت الديمقراطية مساحة من حرية الاختيار للإنسان في بيع قوة العمل، والتنقل والتعبير والتنظيم، بقدر ما كانت أداة امتصاص فائض قيمة قوة العمل من خلال تحصيل الربح للبرجوازي صاحب المصنع والشركة والمعمل، ومالك قوة العمل. ثانيا- الديمقراطية في حال تعارضت مع مصالح النظام البرجوازي، لا يتورع سادة النظام عن خنقها، وإخضاعها لشروط وأجندة النظام هنا أو هناك، ومن يعود في كل الأزمان للحروب، التي خاضتها الأنظمة الرأسمالية ضد أعدائها بما في ذلك الأنظمة البرجوازية فيما بينها (الحروب العالمية الأولى 1914/1917 والثانية 1939/1945) وغيرها، كانت كل الأنظمة تلغي الديمقراطية، وتعلي شأن سياسة تكميم الأفواه، وتخضع كل القوى لمشيئتها السياسية والاقتصادية والأمنية.

ثالثًا: "ديكتاتورية الأغلبية"، الناتجة عن فوز حزب أو قوة أو شخص (إن كانت انتخابات رئاسية) في الانتخابات العامة، ما يمنح الفريق الفائز بالأغلبية المطلقة، أي النصف زائد واحد اشتقاق السياسات الملائمة لأجندته الخاصة بغطاء وطني، ويفرضها على القوى الأخرى.

رابعًا: الديمقراطية تسمح بنشوء ووجود قوى متناقضة مع مصالح الشعب، لأنّ حق التنظيم مكفول في القانون، ولا يجوز لأي نظام برجوازي ديمقراطي حرمان أي مجموعة من الأشخاص أو قوة من تشكيل إطارها الحزبي، لا بل إنّ النظام الديمقراطي الأميركي على سبيل المثال يسمح بتشكيل جيوش من المرتزقة، ومليشيات للإيجار باسم الحرية والديمقراطية، وهي قوى خطرة وتهدد السلم الأهلي في كل لحظة من اللحظات، التي يمكن أن تخرج فيها الأمور عن سيطرة النظام وأدواته التنفيذية.

خامسًا: قد تدفع الديمقراطية وخاصة شقها الإنتخابي بوصول شخصيات عبثية ومدمرة للنظام والعالم على حد سواء، ومن أمثلة ذلك صعود هتلر النازي في 1933/1945 على سدة الحكم في المانيا، وموسوليني الفاشي 1922/1943 في إيطاليا، وترامب الشعبوي 2017 في الولايات المتحدة، والأمثلة كثيرة في التاريخ.

سادسًا: النظام الرأسمالي يستعمل مفاهيم ومقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان في حربه ضد الشعوب الفقيرة والمظلومة في العالم الثالث، ويتحدى قوانين ومواثيق ومعاهدات الشرعية الدولية وباسم "الديمقراطية" لتحقيق مآربه الاقتصادية والسياسية والأمنية.

سابعًا: لتشويه الحقائق، وقلبها رأسًا على عقب وباسم الحرية يستخدم النظام البرجوازي آلته ومكانته الإعلامية لتطويع الرأي العام هنا أو هناك، وبما يخدم مخططات النظام البرجوازي أو أي نظام يتسلح بلعبة الديمقراطية.

ثامنًا: لإعادة صياغة المنظومة الفكرية العالمية يقوم النظام الرأسمالي بين الفينة والأخرى وفي محطات تاريخية بعينها من خلال مفكريه وفلاسفته ومنظريه بإنتاج وإعادة إنتاج نظريات تخدم مصالح وأهداف النظام البرجوازي، مثل: "نهاية التاريخ" فوكوياما، "نهاية الفلسفة" و"سقوط الإيديولوجيا" أو المابعديات: "ما بعد الحداثة" و"ما بعد الليبرالية" أو "النيوليبرالية" و"ما بعد الثورة الصناعية" وحتى ظهرت "الما بعد الصهيونية".. إلخ من المابعديات، وجميع تلك المقولات والمفاهيم والنظريات هدفت لخلط الأوراق في العالم، وإحداث فوضى فكرية سياسية بهدف استباحة العالم. فضلا عن إنَّها انعكاس لحالة التشوه الفكري، التي تعم العالم بعد هزيمة الشيوعية الكلاسيكية وأنظمتها الدولانية مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبهدف إدخال العالم إلى المجهول من خلال ولوج المرحلة الهلامية غير القابلة للتخيل، وإبقائه في دوامة اللاستقرار ارتباطًا بمصالح ما يسمى "الأنظمة الديمقراطية" أو الرأسمالية. مع أنَّ هذا الغموض المسبب، لا يخدم بالمحصلة النهائية تطور المجتمع البشري، ويترك بصمات سوداء على المستقبل المنظور. لأن كل "النهايات" و"المابعديات" أثبتت فشلها وعقم مروجيها مع صعود دونالد ترامب سدة الحكم في الإمبراطورية الأميركية، كونه أعاد العالم وليس أميركا فقط إلى عهود سابقة على صراع القطبين 1945/1989، ووضع حد لنظريات "المابعديات" و"النهايات" .

إذًا الديمقراطية بقدر ما تحمل الإيجابيات، بقدر ما تحمل السلبيات، وكما قال دو توكفيل في النصف الأول من القرن التاسع عشر، "إن الديمقراطية تشكل خطرا على نفسها"، وهي بالضرورة أداة هدم لذاتها ومجتمعها. ولكن هل يمكن حماية الديمقراطية من ذاتها الخطرة؟ السؤال برسم علماء الاجتماع ومنظري الرأسمالية وغيرها من المدارس الفكرية المادية والمثالية.