خاص- مجلة "القدس" العدد 347 ايار 2018 فاطمة المجذوب

من أرحامهِم وُلِدَت النكبة، فكانت لجوءًا. بيادرُهُم كانت تزغرد قمحًا، والأرض تنضح كرمًا، وكرومهم تفيض حبًّا، فبادلوها الوفاء حرثًا وغرسًا. وذات يوم ا ستفاقوا على وقع أقدامهم تعبرُ بهم إلى اللامكان، إلى أن استبدلوا بالزرع أوتادَ خِيَمهم غرسًا بعد أن استقرَّ بهم الحال في مؤقتهم الطويل الذي أسموه مخيَّم.
كانت معاناتهم تزدادُ كلَّما طال عمر المخيَّم، وسلواهم ذكرياتٌ، ومفتاحُ الدار، وبعضٌ من ثياب تعفَّرت برائحة ترابِ وطنٍ ينتظر.
يروون ممَّا فاضت به أكثر من ثمانين حَوْلًا من أمسيات ومواجع. ويقرؤون الزمن في طرفة عين.

سنعودُ ولو سيرًا على الأقدام!
حملَت جهاز عرسها ومضت ابنة الخمسة عشر ربيعًا عروسًا، هي نجيّة محمود عزّام التي تروي حكايتها مع النكبة قائلةً: "لحظة النكبة، هي لحظة لا أستطيع نسيانها، أخرجونا من منزلنا في حطين قائلين لنا لا تأخذوا شيئًا من أغراضكم، ساعات قليلة وستعودون، ولكن كان لدي إحساسٌ قويٌّ أنَّنا لن نعود، فأخذتُ "جهاز عرسي" معي كوني كنتُ متزوجةً في حينها، ولكن للأسف خسرته عقب تنقُّلنا من بلد إلى آخر. أول مدينة تهجَّرنا إليها هي مدينة الجليل، وتحديدًا قرية عيلبون، ومن ثمَّ انتقلنا إلى مدينة الجرف، ومن بعدها وصلنا إلى حدود الأردن، وكنّا في حينها نعاني أقسى أنواع التعب والمشقّة الأمر الذي دفعنا إلى وضع أحذيتنا تحت رؤوسنا ونمنا. وفي اليوم التالي لَفَفْنَا الشرائط على أرجلنا لكي نستطيع متابعة سيرنا، وانتقلنا بإحدى الحافلات إلى مدينة حماة السوريّة، حيثُ جلسنا في جامع بداخله آلاف المهجَّرين، ومن بعدها انتقلنا إلى لبنان، ووصلنا إلى مخيَّم المية ومية، حيثُ كانت الحشرات منتشرةً في كلِّ مكان". وتابعت: "نصبنا الخيمة، وأقمنا فيها بين الحشرات، وكانت المعاناة تكبر وتزداد يومًا بعد يوم. عامان من العذاب عشناهما داخل المخيَّم إذ كنا عندما نقوم بغسل الغسيل نمشي مسافةً طويلةً إلى وادي جهنم لتنشيفه، وكان رجالنا يعملون لقاء بدل لا يكفي قوتَنا اليومي".
أمَّا عن محطّة الوصول إلى مخيَّم عين الحلوة، فقالت الحاجة نجيّة: "وصلنا إلى مخيَّم عين الحلوة ونصبنا الخِيَم مُجدَّدًا، وكان الطقس في تلك الحقبة شديد البرودة والرياح، فأخذت الخيم تتطاير والأمطار تجتاحنا.كانت أيام صعبةً، ولكنَّني أذكرُ جيّدًا أنَّنا رغم كلِّ العذاب حرصنا كلَّ الحرص على أن يحظى أولادُنا بالتعليم، إذ كُنّا وما زلنا نُؤمِنُ أنَّ العِلمَ وحدَه هو الذي يمكن له أن يُعوّضنا عما حلَّ بنا، وكان أبناؤنا يذهبون إلى مدرسة أسَّستها وكالة الأونروا".
وتتابعُ الحاجة نجيّة: "قصدنا مرات عدّة الجهات اللبنانية لطلب السماح لنا بالإعمار، وبدأنا البناء باللبن (مادة طبيعية تتألَّف من مزج التراب بالماء)، وكنتُ أُساعد زوجي، وأحفرُ في الأرض وأجبلُ الماء بالتراب، وأقوم بفركه لكي يصبح طينًا، ولكن للأسف لم يمضِ وقت طويل حتى اجتاح العدو الصهيوني لبنان، ودمَّر كلَّ ما بنيناهُ بشكلٍ كاملٍ".
وللحاجة نجيّة حكايات مع العدو الصهيوني خلال اجتياحه لبنان فتمضي قائلة: "لم يكتفِ الصهاينة بالتدمير، بل قاموا أيضًا باعتقال شبابنا ورجالنا في سراي صيدا، وخرجنا نحن النساء في مسيرة، وتوجَّهنا إلى السراي لكي نُخرِجَ رجالنا من عند ضابط يدعى "أرنون"، وفي طريقنا هاجمَنَا ضابط صهيوني، فكانت أمامي على الأرض بلاطة أمسكتُها ورميتُها في وجهه للدفاع عن نفسي، وعندما وصلنا إلى باب السراي، سمعنا أنَّ شابّتَين اعتُقِلَتا، وعندما دخلتُ لكي أراهما كانت الصدمة، فلم تكونا سوى ابنتيَّ اللّتين خرجتا معنا في التظاهرة، وإحداهما هاجمت جنديًّا صهيونيًّا، فضربتهُ ومزَّقت بدلته العسكرية، الأمر الذي دفع الأخير لضربها، وبعد مرور ساعات عدتُ أنا وابنتاي إلى المخيَّم، ونُقِلَ رجالنا إلى المعتقلات. وبعد انتهاء الاجتياح عاد الجميع لإعادة إعمار المخيَّم من جديد، وتم توزيع كلّ أفراد بلدة في بقعة كما كانوا في فلسطين".
وتختمُ بالتأكيد على أنَّها سافرت إلى بلدان عدّة لكنَّها لم ترَ مثل فلسطين، وأنَّ لديها صديقات عديدات تهجَّرن معها ولا يزلن حتى اليوم يجلسن سويًّا ويتبادلن الأحاديث والذكريات، وشدَّدت على أنَّه رغم مرور عشرات السنين إلا أنَّ لديها أملاً بالعودة حيث أنَّها مستعدةٌ لذلك حتى ولو كان سيرًا على قدميها.

العودة حلمٌ سيتحقَّق مهما مرَّ من سنين
الحاجة سعدة محمد العبدالله في التسعينات من عمرها من قرية المنشية، تقولُ عن معايشتها النكبة: " لم نتمتّع بأدنى نوع من أنواع الحياة الإنسانية في طفولتنا وشبابنا، فقد كانت حقبةً مليئةً بالمعاناة والعذاب، خلال تهجيرنا عشرات النساء أنجبن أطفالهن تحت الشجر، وبعد العديد من التنقُّلات وصلنا أنا وزوجي إلى مخيَّم عين الحلوة، وللأسف أخبرونا أنَّ المخيَّم لم يعد يتَّسع لمزيد من السكان، فانتقلنا إلى سوريا، وعندما توفَّر لنا مكان في مخيَّم عين الحلوة عدنا إليه، فقد كُنّا آخر الناس الذين وصلوا إليه، واشترينا الخيمة بمقابل مادي، ومثل الجميع بنينا بأيدينا المخيَّم".
وتُضيف: "كان لدى ابنتي آمنة حُبٌّ وشغفٌ كبير لحركة "فتح"، فكانت عندما تذهب إلى المدرسة تضع البدلة العسكرية في حقيبتها وترتديها بعد الدوام المدرسي، وعندما اجتاح العدو الصهيوني المخيَّم اعتقلوها 15 يومًا، وفي حينها أخرجها الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات. وبعد انتهاء الاجتياح قمنا بإعمار المخيَّم، وطلبَ شابّان من الداخل الفلسطيني الزواج بابنتيَّ آمنة ووردة، فوافقتُ أنا وزوجي على أن نزوّجهما لهما لتسكنا في فلسطين، ولكي يبقى شيء منا هناك".
وتنهي كلامها قائلةً: "زرتُ ابنتَيَّ مرّات عدّة في فلسطين، وتفقَّدتُ منزلي فوجدتُه محروقًا، ولكن رغم ذلك فأملُ العودة مرسومٌ أمام عينيَّ، وأراه قريبًا جدًّا مهما كان بعيدًا".
نجيّة وسعدة حكايتان من لجوء عمره من عمر نكبة فلسطين التي حملت في جعبتها آلاف الحكايات التي تُفيضُ ألـمًا ومعاناةً ووجعًا. هي النكبة التي تربطهم بالأرض أكثر، وبحقِّهم في العودة إلى الأرض حقيقةً لا ذكريات.
فرغم مرور سبعين عامًا بعيدًا عن أرض الوطن، إلّا أنَّ الشعب الفلسطيني من أصغر شبلٍ وحتى أكبر شيخٍ لا يزال مُتمسِّكًا بحقِّ العودة بكلِّ ما منحه الله من حواس، وما زرعَ بداخله اللجوء من جوارح.