خاص- مجلة "القدس" العدد 347 ايار 2018/ تحقيق: وسام خليفة

تُجسِّدُ المخيَّماتُ أكبرَ الشواهد على نكبة الشعب الفلسطيني، وما ارتُكِب بحقِّه من جرائم صهيونيّة، وما قاساهُ من معاناةٍ على مدار سبعين عامًا. وفي حين تتعرَّض هذه المخيَّمات حاليًّا لِجُملةٍ من الأخطار والتحدِّيات، فإنَّها ما زالت حتى اليوم تبرزُ كأحدِ أهمِّ معالم الصّبر، والصُّمود، والتمسُّك بحقِّ العودة الذي يتوارثُهُ الفلسطينيون جيلاً بعد جيل.


مُتمسِّكون بحقُّ العودة ولن نسمحَ بتصفيتِهِ
"أخذَ المخيَّمُ اسمَهُ من التخييم، وهي الرحلة التي تكون بعيدةً عن البيت، وقد تمتدُّ من يوم إلى عدّة شهور، لكنَّ رحلة مأساتنا، التي بدأت عام 1948 بالتهجير من أرضنا إلى خِيَمٍ في بقعة تكاد لا تتَّسع لمن لجؤوا إليها أصلاً، ما تزال مستمرّةً منذُ 70 عامًا"، بهذه الكلمات يستهلُّ الفلسطيني حمزة عبدالقادر اللاجئ في مخيَّم قلنديا منذُ أكثرَ من ثلاثين عامًا حديثه.
وحول طبيعة الحياة في المخيّم يقول: "للأسف نحن محرومون من جميع الحقوق. من المؤلم أن يُسلَبَ منك مستقبلك أو حياتك قبل أن تولد، فأنا وغيري من الشباب عندما كبرنا، أصبحنا مُجبريَن على العمل لدى الآخرين طوال حياتنا لنتمكَّن من صناعةِ مستقبلٍ بسيطٍ لا يكتملُ أحيانًا لأنَّنا مجرَّدون من كلِّ شيء، مجرَّدون من الأرض والمال والشجر والحجر، وقد يصل بكَ الأمر إلى تجرُّدك من حياتك".
ويوضح عبدالقادر أنَّ المخيَّمَ يزدادُ اكتظاظًا بالسُّكان يومًا بعد يوم مقارنةً بالمساحة المحدودة التي تأسَّس عليها قبل 70 عامًا، مُحذِّرًا من تحوّله إلى "قنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ وقت"، ويُضيف: "الجيل الجديد سيعاني كثيرًا، وستكون صعوبات المستقبل أمامه مضاعفةً، لأنَّ المخيَّم لم يعد يتَّسع أصلاً لعدد السكان الموجودين فيه حاليًّا".
أمَّا عن تأثير تراجع خِدمات "الأونروا" على الأهالي فيقول: "لوكالة "الأونروا" دورٌ رئيسٌ في حياة اللاجئ الفلسطيني أينما وُجِدَ سواء أكان في مخيّمات الداخل أو الخارج، وقد كان لتقليص خِدماتها تداعيات كبيرة على معيشتنا، وأعتقد أنَّ الأوضاع ستزداد تفاقمًا على جميع المناحي، وهذا يندرج ضمن محاولاتٍ متدرِّجة لإنهاء وجود"الأونروا"، وإجبارنا على الرضوخ للأمر الواقع وعدم المطالبة بحق العودة إلى بلداتنا الأصلية، وبالتالي إنهاء حقِّنا بالعودة الكامل، بحيث لا نستطيع توريثه، وكلُّنا يعلم أنَّ مساعي تصفية حق العودة من قِبَل العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص ليست مجرَّد محاولات بل هي واقع موجود منذ أن وُجِدَت هذه القضية".
وفي حين يصف عبدالقادر أوجه المعاناة في المخيّم، فإنَّه لا ينفي وجود جانبٍ مُشرقٍ له، إذ يقول: "المخيَّم هو المكان الذي وُلِدتُ فيه وأعيشُ فيه وربما أموتُ فيه أيضًا، ورغم كلِّ ما قاسيناه خلال حياتنا فيه، فإنَّ المخيَّم يحمل في طياته جوانب مشرقة، فمنه برز العلماء، والأطباء، والمعلِّمون، ورجال الأعمال، والفنّانون، والصّحافيون، وفيه الأهل والأصدقاء، أيّ أنَّه أصبح كوطنٍ بديلٍ مؤقّت، ويكفي أنَّه احتضننا في أزقّته وشوارعه منذ سنين، وجعلَنَا نشعرُ بشيء من الأمن والطمَأنينة، ولكن في الوقت ذاته فإنَّ المخيّم لن يُعوِّضَنا عن بلدتنا ومدينتنا الأصلية".
ويختم حديثه قائلاً: "منذُ فتحنا أعيننا في هذا المخيَّم نعيشُ حلمًا بدأ ولم يتحقَّق بعد، فآباؤنا وأجدادنا منذُ سكنوا هذه المساحة الضيّقة، ونَصَبوا خيامهم وهم يحملون حُلم العودة إلى أراضيهم التي اغتُصِبَت منهم، والكثير منّا دفع ثمن هذا الحلم غاليًا جدًّا، لأنَّ القضية واحدة والهدف واحد منذ 70 عامًا وهو العودة إلى أرضنا، إلى بيوتنا، إلى حقولنا، إلى أشجارنا، إلى كلّ شيء. فاللجوء أينما كان وحتى لو كان في الوطن، إلّا أنَّه يبقى محكومًا بالحرمان من الحقوق الاجتماعية وحتى المدنية، لأنَّك مهما حقَّقت ونجحت ستبقى تعيش في وطن بلا هُويّة. واليوم الجيل الجديد يواصل مسيرةَ من سبقه من الأجيال حاملاً القضية على أكتافه، فتوريث هذه القضية سبب رئيسٌ في عدم انتهائها، خاصةً أنَّ الاحتلال الصهيوني والمجتمع الغربي راهنوا منذُ البداية على أنها ستُنسَى مع مرور الزمن".

اللاجئ لا ينسى قضيّته لأنَّه يعيشها يوميًّا!
يرى ابن قرية صرعة اللاجئ في مخيَّم قلنديا محمد أبو لطيفة أنَّ أوضاعَ المخيَّمات الفلسطينية تزدادُ سوءًا مع تزايدِ التّحدّيات التي تنشأ كلَّ يوم، وفي هذا السياق يقول: "تأسَّس مخيَّم قلنديا عام 1949 بعد النكبة الفلسطينية، وكان عددُ سُكانه آنذاك نحو 10 آلاف نسمة هُجِّروا من عدة قرى وبلدات فلسطينية. ويقع المخيَّم إلى الشمال من عاصمتنا المحتلة، وتُحيط به من ثلاث جهات مستوطنةٌ وجدارٌ وحاجز احتلالي. وكسائر سُكان المخيّمات، يعيشُ أهالي قلنديا أوضاعًا شديدةَ الصعوبة جرّاء تقليصات "الأونروا" التي تزداد يومًا بعد يوم على مستوى التعليم الأساسي، والعلاج، والغذاء، والصحة البيئية، وغيرها، ممَّا انعكس على الوضع الاقتصادي في المخيَّم، وقد أصبحنا نشعر أنَّ "الأونروا" شريكة في مشروع التهجير، وتسعى لتدفيعنا الثمن، ولإبقائنا في العذاب الذي نعيشه الآن".
ويُنوِّه أبو لطيفة إلى أنَّ فصول المعاناة اليومية من لجوءٍ وانتهاكاتٍ واعتقالاتٍ زادت الشباب الفلسطيني وعيًا بحيثيات قضيّته ومُجرَياتها، لافتًا إلى أنَّ أهل المخيّم يراقبون الوضع السياسي بشكل مُعمَّق ودائم لأنَّهم يعيشون الأزمة بكلِّ تبعاتها.
ويُضيف: "أرى أنَّ المرحلة القادمة لتحرير فلسطين تبدأ من المخيَّم، فنحنُ متمسِّكون بحقِّ العودة وببلادنا. اسألوا أطفالنا من أين أنتم؟ سيجيبون من يافا، وحيفا، من البلاد التي هُجِّر أجدادهم منها، ولا شيء يثنينا عن حق العودة.. لا تعويضات.. ولا تنازلات، ونحن نثق بالقيادة السياسية وبالوعي الشبابي، وبإذن الله سنورث حقَّ العودة لأبنائنا. نحنُ نُسمّي أبناءنا بأسماء الشهداء الذين ارتقوا من أجل فلسطين لنُكمِل المسيرة والنّضال حتى التحرير والعودة، فابنتي اسميتها "وطن"، وابني أسميته "أحمد" على اسم شقيقي الشهيد، وحلمي كأيِّ شابٍّ لاجئ أن أعيش في أمانٍ واستقرارٍ ضمن دولة ذات سيادة وقانون محرَّرة من الاحتلال".

الفلسطينيون تعلَّموا الدرس.. والنكبة لن تتكرَّر
يرى الكاتب والمحلِّل السياسي جهاد حرب أنَّ اللاجئ الفلسطيني أصبح اليوم أكثر وعيًا تجاه قضيّته مع مضي السنوات، لافتًا إلى أنَّ ذلك انعكس على الأجيال الجديدة التي لم تعش النكبة لكنَّها تعيش نتائجها.
ويُضيف: "لا أعتقد أنَّ الشعب الفلسطيني يعيش بوادر نكبة جديد، فقد اختار الفلسطينيون بعد العام 1948 طريق النضال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وصمدوا في مواجهة المعاناة التي نشأت عن النكبة، وهُم اليوم أكثر نضوجًا من الناحية السياسية لمقاومة ومواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية، فهم يواجهونها على مستويين. المستوى الأول هو النضال الفلسطيني الواسع كما شاهدنا في المواجهات التي أعقبت إعلان الرئيس الأمريكي القدس عاصمةً لكيان الاحتلال الصهيوني، وخاصةً في الضفة الغربية ومدينة القدس، وفي مسيرة العودة التي يخوضها شعبنا في قطاع غزة هذا على المستوى الميداني، ممَّا يؤكِّد تمسُّكهم بحق العودة إلى ديارهم وفقًا لقرار الأمم المتحدة 194. أمَّا المستوى الثاني، فيتعلَّق بمسار الأمم المتحدة والتأكيد من خلالها على حق الفلسطينيين في العودة وَفقًا للقرار 194، وتوفير الدعم الدولي لـ"الأونروا". وما قدَّمته السعودية والإمارات أثناء القمّة العربية من دعم كبير لـ"الأونروا" يدلُّ على توجهات دولية مساندة وداعمة لـ"الأونروا" لمواجهة الأزمة التي صنعتها الإدارة الأمريكية، وبمعنى آخر يتّضح أنَّ القيادة الفلسطينية تعمل بجهد لإبقاء "الأونروا" وتوفير دعم لها من خلال الأصدقاء العرب والأجانب".
وحول تبعات النكبة ومدى تمسُّك الأجيال المتعاقبة بأرضهم وحقِّهم في العودة يقول حرب: "اللاجئ الفلسطيني استمرَّ في نضاله في مواجهة سياسات التشريد والفقر التي انتَجَتها النكبة، وصنعَ من المخيّم قلعةً للصمود وللمقاومة والانبعاث من خلال الانتشار الدولي الأممي للفلسطينيين عبر التعليم والمهن التي اختارها اللاجئون الفلسطينيون، وهناك العديد من الشخصيات على المستوى العالمي من اللاجئين الفلسطينيين ذوي الدور البارز في مجالات مختلفة. وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه اللاجئون الفلسطينيون من تطور اقتصادي وثقافي إلّا أنَّهم ما زالوا متمسّكين بحقوقهم المشروعة وعلى رأسها العودة، والتي أكَّدتها الأمم المتحدة، وما زالوا يُعلِّمون أبناءهم جيلاً بعد جيل التشبُّث بهذه الحقوق، وهذا ما نلمسه بوضوح لدى الأطفال الفلسطينيين اللاجئين الذين ما زالوا يتمسّكون بحقوقهم، مُسقطين مقولة رئيسة وزراء الاحتلال الصهيوني جولدا مائير بأنَّ (الكبار يموتون والصغار ينسون)، حيثُ نرى اليوم مزيدًا من الأطفال الفلسطينيين المطالبين بحقِّهم في العودة إلى أراضيهم".
تحقيق: وسام خليفة