في بدايات شبابي الغارب، حاولت أن أكتب عن النكبة الفلسطينية بأسلوب ملحمي، وأن استعيد تفاصيل ما أعرفه وعشته من لحظات خارقة في الطريق إلى المنفى، وأذكر أنني كتبت في تلك الأيام أكثر من مائة وخمسين صفحة عن فواجع اليوم الأول، من لحظة الصحو المفزوع على انفجار قذيفة (مورتر)، في فناء بيتنا في قرية السوافير الشمالي آخر حدود لواء غزة شمالاً حسب قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، الذي لم تطبقه إسرائيل قط، إلى وسط بلدة دير البلح في وسط ما أصبح يعرف بقطاع غزة، ولكن تلك المئة وخمسين صفحة التي لم أكملها، أقنعني بالتوقف عن المحاولة، لأنني تجرعت خلال انثيال ذاكرتي إلى عذاب يفوق الوصف، فما بالكم بمرارة التجربة نفسها؟ وكل المحاولات التي جرت لتطبيع النسيان من جهات متعددة ذهبت إلى السقوط، لأن فاجعة الفلسطينيين كانت أفدح من النسيان، الفاجعة كان لها معادل موضوعي واحد وحيد لا غير وهو القيامة، ومنذ تلك اللحظات وهذا الشعب الفلسطيني يواصل قياماته التي تتنامى على الطريق لتضع قيامته الكبرى، بإعادة زرع فلسطين وطن الفلسطينيين في أرض فلسطين، دولة حرة تساهم في صنع حضارة الإنسان واعجازاته وعاصمتها القدس، القدس الشريف، القدس الشرقية، وأنا مثل غيري من الفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم رغم الظروف المستحيلة، أو انتشروا على امتداد القارات الست ليكونوا شهود المأساة ومبشري المعجزة، أؤمن أن انتصار فلسطين أمر حتمي، خارق الصعوبة ولكنه حتمي، فهناك شعوب وأمم وحضارات سادت تم بادت بفعل أنثى بعوضة الافلوفيلس التي تسبب حمى الملاريا، أمّا نحن الفلسطينيين الذين نتجرع منذ سبعين سنة ما هو أعتى من ذلك ألف مرة، فقدرنا الوحيد هو الحياة والصمود والانتصار، لأن حكايتنا يجب آن تروى باعجازاتها في الأرض إلى يوم الدين، وأمّا أولئك الذين يفرضون طريق إلياذتنا الفلسطينية فليسوا سوى الطرف الآخر الذي ستحيق به الهزيمة واللعنة الأبدية.
وفي هذا السياق، يجب أن نظل كفلسطينيين نبحث عن إبداعات غير عادية، عن حلول غير مقترحة، عن أفعال ومبادرات ليست في الحسبان، ذلك هو الخيط الناظم لحياتنا، وهل كنا يوماً غير ذلك، نحن الذين قطعنا كل دروب النكبة، ولم يقل لنا أحد توقفوا لكي تشربوا جرعة ماء، وافتتحنا في أطراف الأرض مقابر لم يكن قد سكنها أحد قبلنا، ومن هول العذاب أسقطت الأمهات أولادهن في بحر يافا لحظة الفاجعة، ووعدنا الأقربون أننا سنعود بمجرد أن يتحقق وعد تحقيق الوحدة العربية وبعدها وعد الوحدة الإسلامية!!! وتعلمنا في مدارس فصولها خيام ومقاعد الدراسة أكياس من القش، عشنا وأسقطنا مشاريع الإسكان والتوطين والتهجير إلى العام الجديد، وفجرت الثورة بجانب آبار النفط، وكل ما هو غير مألوف وغير معروف فعلناه من أجل قوة البقاء، لأن البقاء يعطينا حق المطالبة.
يا يوم النكبة، سرّك أكبر من حدود المباح، وألمك لا يشفى إلاّ بالأمل، وموتك هو الذي ينتج الحياة، أماّ أميركا ترامب وإسرائيل نتيناهو، فهذه علامات زائلة، وحواجز مؤقتة، هناك نكبة فاجعة، وفي المقابل هناك قيامة خارقة، ونحن الشعب الذي هو علامة خارقة، ونحن الشعب الذي هو علامة الله التي لا تفنى ولا تنطفئ.