إذا امتلك شعب من الشعوب ناصية العلم، واستثمره كما يجب، فإنه يحقق قفزات عالية وعالمية بين شعوب الأرض، فالعلم ثروة لا تقدر بثمن، الأمر الذي يملي على الشعوب الفقيرة، والتي تعاني من نقص حاد في الثروات الطبيعية التركيز على الاستثمار في العلم والمعرفة، والنهوض بكفاءات الأجيال الجديدة، لأن العلم بحد ذاته ثروة الثروات، وحتى الشعوب، التي تختزن أراضي أوطانها الثروات الطبيعية، هي بحاجة ماسة للاستثمار في حقول العلم المختلفة، كي تتمكن من استثمار ثرواتها بشكل صحيح وسليم، وبما يصب في خير الناس جميعا، ولا يمكن لشعب من الشعوب استغلال تلك الثروات الطبيعية دون كفاءات علمية، لأنها إن لم تفعل ذلك فإنها تفتح المجال للأقطاب الدولية المتربصة بشعوب العالم الثالث الضعيفة للانقضاض على تلك الثروات عبر ذرائع وحجج مختلفة ومختلقة، حتى أنها يمكن أن تفتح بوابات الحروب الإقليمية أو الأهلية للنفاذ لتلك الدول ونهب ثرواتها، كما يجري في العالم العربي، حيث تستغل قوى الغرب الرأسمالية التناقضات الداخلية والإقليمية، وتأجيجها على أساس ديني وطائفي وإثني وحتى قبائلي وعشائري لاختراق دول وشعوب العالم العربي وتفتيتها لتحقيق مآربها النفعية والاستعمارية.
في حالة الشعب العربي الفلسطيني الواقع تحت نير الاستعمار الإسرائيلي، ونتيجة افتقاد فلسطين للثروات الطبيعية، فإن الضرورة أملت، وتملي على قيادة منظمة التحرير وحكومتها تكثيف الجهود، وتعزيز العملية التربوية في كل مراحل التعليم، للاستثمار في الأجيال الجديدة، وكلما أولت جهات الاختصاص العملية التعليمية الاهتمام المطلوب من الروضة حتى الدراسة الجامعية بمستوياتها المختلفة، وصقلت الجهاز التعليمي بمدرسين أكفاء، كلما تحققت الغاية والهدف المراد أكثر فأكثر، وتبوأ الشعب العربي الفلسطيني مكانة متقدمة في صفوف العالم ككل. ولا يكفي هنا النوم على المنجز القائم، والمتمثل بعدم وجود أمية في أوساط الشعب الفلسطيني، لأن هذا الجانب على أهميته يبقى قاصرا عن تحقيق الأهداف التربوية والوطنية المرادة، الأمر الذي يفرض الارتقاء بنوعية العملية التعليمية، واغنائها بما يتوافق مع روح العصر الحديث.
لكن على أهمية هذا الاستثمار في العلم لمواجهة دولة الاستعمار الإسرائيلية، وتعويض النقص في الثروات الطبيعية، فإن الشعب الفلسطيني مازال يخوض مرحلة الكفاح الوطني التحرري، التي يفترض أن تتكامل مع العملية التربوية، لأن النضال الوطني التحرري لا يتحقق بمواجهة العدو بإشكال النضال المختلفة فقط، كما كانت فصائل الثورة تثقف مناضليها في السنوات الأولى من الظاهرة العلنية للثورة بالتركيز على الجانب الكفاحي في الدفاع عن المصالح الوطنية العليا في المعارك المختلفة دون ربط ذلك مع العلم، ولكنها تداركت ذلك في زمن قياسي، وعملت على صقل تجربة المناضلين في معارك الثورة الفلسطينية، وأولت العلم أهمية عالية، لأنها أدركت بأنه لا يمكن أن تحقق أهداف شعبها إلا من خلال الربط بين العلم والثورة، لأن غياب العلم يعني الارتجال والعفوية، ولكن تم تجاوز مرحلة الصبيانية اليسارية، وتم الربط الجدلي بين العلم والكفاح الوطني بكل أشكال وأساليبه.
وتعززت التجربة النضالية في نعمان الكفاح التحرري، ومازالت، وتربت أجيال عديدة في خضم المعارك للدفاع عن مصالح الشعب والثورة، وصقلت معارفها من خلال مدرسة الثورة وجامعاتها الوطنية، وبالتالي لا يمكن النظر للفلسطيني من خلال منظار العلم لوحده والعكس صحيح، إنما بالربط الديالكتيكي العميق بين العلم والكفاح، وعليه لا يجوز ونحن نبحث عن اختيار الهيئات القيادية حصر الأمر في نطاق فئة أو شريحة محددة، لأن هكذا عمل يضعف القيمة والأهمية القيادية في أوساط الشعب. ولا يجوز تحت أي اعتبار أن تواجه القيادة، وهي تختار عناصرها القيادة أن تكون مسكونة بعقدة النقص من حملة شهادات الدكتوراه وأساتذة الجامعات، على أهمية دورهم،لأن رواد هذه الشريحة لم ينعركوا في مدارس الكفاح، كما يجب، وبالتالي قدرتهم على تمثل الأهداف الوطنية تشوبها عوامل الضعف. وهناك المئات والآلاف ممن حملوا الشهادات العلمية العالية للأسف الشديد لا يفقهوا شيئا في مجالات الحياة الأخرى، وهذا لا يعني الانتقاص من أهمية العلم والاستثمار فيه، أو استبدال الكفاءات العلمية بمناضلين تنقصهم المعرفة والثقافة السياسية والأدبية والإنسانية، بل تملي الضرورة التدقيق الجيد والمسؤول في اختيار الكفاءات القيادية، التي ستقود المشروع الوطني إلى الحرية والاستقلال والعودة، ومن لم تعركه مدرسة الحياة والعلم والثورة، لا يمكن له أن يكون أهلا للمواقع القيادية.