كان حلمه بالثورة الشاملة مبكر جدا، وكانت المسافة بين عقله الذي في رأسه ورؤوس أصابعه التي ينفذ بواسطتها أفكاره، مسافة قصيرة جدا، مسافة صفرية، ولذلك فان الفتى خليل الوزير الذي كان لا يزال في عام 1954 يرتدي الشورت المدرسي، ويركب دراجته الهوائية، قد جسد بدايات حلمه الكبير، وعبر عن أفكاره، يصنع أول متفجرة زرعها في مشروع مياه في مستعمرة، ناحال عوز، الإسرائيلية المقامة اغتصابا في غلاف غزة.

تلك العبوة الناسفة الصغيرة كانت تظهيرا لذلك الجنين الذي ينمو في الأحشاء العميقة للشعب الفلسطيني المظلوم والجريح والذي يستخف بجرحه الأقربون والأبعدون، ويستهين به الكبار وتواطئوا ضده على المكشوف، فسلبوه وطنه وأعطوه هدية مجانية لخرافة ولدت من العدم اسمها إسرائيل، ولكن العبوة الناسفة الصغيرة نبتت مثل بذرة قوية في الأرض أصبح اسمها بعد ثلاث سنوات حركة فتح، ثم عبرت عن نفسها بتجلب اعم اسمه بالثورة الفلسطينية المعاصرة.

خليل الوزير ((أبو جهاد)) بنى هذه الفكرة، كان هو أكثر من يعرف خطورتها، كان يعرف إنها القيامة لشعب أهالوا عليه التراب، ولذلك تعامل معها بإبداع خارق، عدم الإيغال في الشطحات الأيديولوجية التي تشبه شطحات الصوفيين حين يأخذهم الوجد الصوفي إلى ما هو غير واقعي، والإيمان المطلق بان الجرح الفلسطيني هو جرح واحد، اقتلاع شعب من وطنه، ونكران اسمه، والمتاجرة بعذاباته وكأنها بضائع نادرة ليسالا. وبالتالي فان الحلم يجب أن يظل سرا في الأعماق البعيدة تظهر تجلياته في أشكال صاخبة، وان حملة هذا السر يجب أن يكون الواحد منهم يعيش بطريقة غريبة نصفه في الماء ونصفه في اليابسة، لا يعرف احد عمق هذا السر ولا صيرورته النهائية، لأن طريق مزروعة بالموت والدسائس السوداء، ولأن أعداء فلسطين في كل زمان ومكان، ليسوا فقط الأقوى، بل هم الأكثر شذوذا، بعضهم يخون شعبه بالمجان، وبعضهم ينكر حليب أمه، وبعضهم يصل إلى درجة من العبث بالذات إلى حد الجنون المكابر.

ميراث أبو جهاد لا حدود له، كان رجلا مثيرا للدهشة، اذكر انه بعد عملية دلال المغربي التي وقعت في آذار وقت المطر الدافئ، كان أبو جهاد على موعد مع طاقم تلفزيوني أميركي، وقد اختار أبو جهاد أن يكون الموعد جنوب مدينة صور في احد البساتين، وصل الطاقم التفزيوني، ثلاث كاميرات وفنيان في الصوت والإضاءة، وقدمنا أبو جهاد لرئيس الطاقم الذي كاد أن يفقد صوابه من شدة المفأجاة، أبو جهاد، الاسم الكبير، كان يرتدي كعادته، بدلة خضراء اللون قريبة إلى لون الكاكي، لحية حليقة، شعره مسرحا بدقة، وابتسامته المشرقة على شفتيه، وقال رئيس الطاقم هذا مستحيل، اسمك المشهور يوحى بأنك على خلاف ذلك، ضخم، حاد النظرات، متجهم الوجه، أشعث الشعر، أما هذا الذي يقابلنا أشبه بنجم سينمائي وليس رجل حرب واقع الصيف، لكن هذا الرجل ذا الابتسامة المشرقة كان الشغل الشاغل للإسرائيليين وحلفائهم.

وذات يوم، قبل الانتفاضة بشهور قليلة، ناداني أبو جهاد إلى بيته في بغداد قائلا انه سيتيح لي الالتقاء بصديق قديم، وذهبت ووجدت عنده في البيت احد الصحفيين الذين يعملون في الصحافة الكويتية وهو مواطن فلسطيني من غزة، وبعد دقائق فتح أبو جهاد أمام الضيف حقيبة جلدية، وقال للضيف أن فيها مليوني دولار وطلب من الضيف أن يعمل بطريقته لإدخالها إلى غزة، فانتفض الضيف كمن لدغته أفعى، واصفر لونه كمن فقد دمه، وقال انه ليس لديه فكرة عن هكذا أعمال خطيرة، مع انه كان دائم الانتقاد لأبي جهاد، بأنه ليس دقيقا، وليس حريصا، ولكن حين طلب منه أن ينجز شيئا بسيطا مما كان يفجره أبو جهاد كاد الخوف يقتل روحه، صحيح المثل الذي يقول أن الكلام لا يكلف صاحبه أي جمارك، ولكن أهل الكلام الفارغ لا يعتبرون.