تحقيق:د.سامي إبراهيم
خاص مجلة "القدس" العدد 346 نيسان 2018

لم تكن دلال المغربي، تلكَ الشابّة الفدائيّة التي أقامت "الجمهوريّة الفلسطينية" على طريقتِها ولُقِّبَت بـ"عروس يافا" تكترثُ لما هي مُقبِلةٌ عليه، ففي تلك الليلة من ليالي آذار الباردة كانت تضعُ نصب عينَيها هدفًا وحيدًا هو نجاح المهمة الفدائية التي أُوكِلَت إليها، هدفًا أرادت من خلاله أن تُسمِعَ صوتَ قضيّتها للعالم أجمع، وقصّةَ شعبها الذي هجَّره الاحتلال واقتلعَهُ من أرضِهِ بغير وجه حقٍّ.

ولم يكن يدري أقرب الناس إلى تلك الفتاة السمراء - التي وُلِدَت في أحد مخيَّمات العاصمة بيروت- أنَّها ستُصبِح رمزًا للقضية الفلسطينية، إذ نجحت دلال من خلال عمليّتها الفدائية في إيصال صوت قضيّتها وشعبها إلى مختلف أصقاع الأرض، وألهمَت وصيّتُها المئات من الأحرار الذين حذوا حذوها لتحرير أرضهم بغضِّ النظر عن المحتل.
وصيّةُ الشهيدة دلال المغربي حملَت الكثيرَ من الدلالات من دعوتها إخوانها إلى تجميد التناقضات الثانوية وتصعيد التناقض الرئيس ضدَّ العدو الصهيوني، إلى دعوتها للاستمرار بنفس الطريق الذي سلكته هي وإخوانها في العملية الفدائيّة.
هذا الطريق، وعلى الرغم من الانتكاسات التي شهدتها الثورة الفلسطينية، لا يزال يتردَّد صداهُ على مسامع الفلسطينيين، إذ قلَّما تجِد فلسطينيًّا لا يعرف مَن هي دلال المغربي، فكيف هو الحال إذا كان هؤلاء الفلسطينيون هُنَّ بنات شقيق الشهيدة دلال المغربي.
على نَهج دلال يمضينَ
ثلاثُ فتياتٍ في مقتبَل العُمر عاهدن أنفُسَهنّ على البقاء على نهج الشهيدة دلال على الرغم من مرور ثلاثين سنةً على عملية الشهيد "كمال عدوان" كما أُطلِقَ عليها في ذلك الوقت.
عاهدنَ أنفُسهن أن يُكملن طريق دلال، ولكن السؤال الأهم كيف؟ فليست منهنّ مَن حملت البندقية من قبل، وليست منهنّ مَن عايشت الثورة الفلسطينية في لبنان، وهُنّ مجرَّد فتيات يذهبن كلَّ يوم إلى مدارسهنّ وجامعاتهنّ.
استمرَّ البحثُ عن الطريقة إلى حين شاءت الصُّدَف أن تظهر مواهبهنّ في الغناء، فكانت البداية مع بيان المغربي، تلك الفتاة التي تبدأ حديثها بالتأكيد على المسؤولية التي تتحمَّلها نتيجة الإرث الذي تركتهُ دلال على الرغم من أنَّهمالم تلتقيا أبدًا، وعن ذلك تقول: "اسمُ دلال لا يُفارقني، حتى إنَّني أُعرِّف عن نفسي كابنة أخ الشهيدة دلال".
بيان- ككثيراتٍ من اللاجئات الفلسطينيات في لبنان- تؤمن أنَّ العِلمَ هو سلاحها الوحيد لمواجهة الاحتلال وطريقها إلى مساعدة عائلتها للتخلُّص من الظُّلم الذي يعاني منه اللاجىء الفلسطيني في لبنان، لذلك وعلى الرغم من موهبتها في الغناء اختارت أن تدرس الصيدلة في جامعة بيروت العربية لتبقى موهبة الغناء ثانويةً في حياتها، وإن كانت تتمتَّع بصوت شَجي يُلهِب الحماسة في قلب من يسمعه.
حتى تخصُّص الصيدلة لم يكن الحلم الأول لبيان، فالحلم الأكبر كان دراسة الجراحة حتى تتمكَّن من مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لكنَّ القيود والتشريعات اللبنانية التي تحظر على الفلسطيني العمل في مهنة الطب حرمتها من تحقيق حلمها.
وترى بيان أنَّ الغناء سيبقى موهبةً ولن تُعزِّزها بدراسة في المعاهد الموسيقية، لأنَّه برأيها ليس هناك من تقديرٍ للغناء في العالم العربي، وهي تركز في الوقت الحالي على إكمال دراستها، لكنَّها لا تتأخَّر عن المشاركة في أيِّ حدثٍ يخصُّ القضية الفلسطينية، وهي تُشارك من حين إلى آخر في أداء الأغنيات الوطنية التي ترى فيها استكمالاً لمسيرة النضال التي بدأت مع الشهيدة دلال المغربي، وهي على استعداد للمشاركة في أيِّ عمل تلفزيوني أو سينمائي يخصُّ الشهيدة دلال.
كلامُ بيان يتناقضُ مع ما تقوله شقيقتها تسنيم، التي تحبُّ الأضواء والشهرة، ولذلك اختارت الحقل الأدبي في دراستها، وهي تؤكِّد أنَّها ستتَّجه إما نحو الغناء أو دراسة الإعلام لتكمل المسيرة التي بدأتها عمَّتها دلال، معلِّقةً بالقول: "أُريدُ أن أكون صوت اللاجىء في الشتات".
وتسرد تسنيم كيف اكتشفت عن طريق الصّدفة موهبتها الغنائية التي بدأت في جلسة مع أصدقائها، إذ رأت أنَّ هناك طاقة في صوتها عليها تفريغها، وتروي كيف عادت في ذلك اليوم إلى منزلها لتتصفّح الانترنت، وتبدأ القراءة عن كيفيّة الغناء الصحيح.
لكنَّ تسنيم كشقيقتها بيان لا تزال تُؤمن أن العِلم هو الأفضل للاجىء الفلسطيني وهو السِّلاح الوحيد الذي من الممكن أن يمتلكهُ في الشتات، وعليه فهي تحاول أن تُوَفِّق بين دراستها والغناء، وهي تُشارك في غناء الأغاني الوطنية في المدرسة، وفي النشاطات الصيفية والاحتفالات الوطنية.
وترى تسنيم أنَّ موهبة الغناء ستستمر معها من خلال تأدية أغنيات رصينة ووطنية، وترفض المشاركة في أيِّ نوع من أنواع الغناء الهابط الذي يشهده العالم العربي حاليًّا.
الأُغنية الوطنية إحدى وسائل مواجهة الاحتلال
مواهبُ بيان وتنسيم في الغناء تُستَتبعُ بموهبة شقيقتهما الصُّغرى بسملة، تلك الفتاة الصغيرة التي على بساطة كلماتها تُعبِّر بشكل جليٍّ عن مدى حبّها للغناء، فهي لا تترك يومًا إلّا وتُطالِب أهلها فيه بإلحاقها في أحد المعاهد الموسيقية لتنمية موهبتها التي اكتسبَتها من والدها واخوتها.
وترى بسملة، التلميذةُ في الصف الخامس في إحدى مدارس "الأونروا"، أنَّها صوتُ فلسطين كعمَّتها دلال، وهي تتمنَّى أن يصل صوتها في الغناء إلى العالم أجمع، كما وصل صوتَ عمَّتها من قبلها من خلال العملية الفدائية التي قادتها. وتعبّر بسملة عن فخرها واعتزازها بعمَّتها كما هو الحال بفخرها بصوتها.
بسملة تعتبرُ أنَّها تحبُّ الغناء كما تحبُّ الدراسة، ولكن لدى سؤالها عن أيّهما تُفضِل أجابت بعفويّة أنَّها تحبُّ الغناء أكثر من أيِّ شيء آخر، وهي لا تتوانى عن الغناء في الاحتفالات الوطنية في المدرسة وخارجها، وحتى أثناء انتظار المعلِّم أو المعلِّمة للدخول إلى الصف، فعلى حدِّ تعبيرها العفوي: "أنا لا استحي من الغناء، لذلك أُغني لأصدقائي في الصف بين الحصص الدراسية".
وترى بسملة أنَّ "إحدى وسائل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي هي من خلال غناء الأغاني الوطنية للتأكيد على الهُويّة الفلسطينية للشعب الفلسطيني في الشتات"، ولذلك فهي مستعدةٌ للذهاب إلى آخر العالم لتغني لفلسطين وللهُوية الفلسطينية.
تلك السطور اختصرت حكاية عائلة المغربي التي بدأت بالعملية الفدائية التي قادتها الشهيدة دلال المغربي وأوصت فيها بالاستمرار على ذات النهج، وبعد مرور ثلاثة عقود على تلك العملية الفدائية لا تزال عائلة المغربي على العهد من خلال شكل جديد من أشكال المقاومة، فكما أوصلت بندقية دلال قضيّتها إلى العالم تحاول الفتيات الثلاث إيصال قضيّتهنّ إلى العالم من خلال حناجرهنّ الذهبية، على أمل أن تتبناهنّ إحدى المؤسّسات الفلسطينية لتنمية مواهبهنّ لإكمال مسيرة الشهيدة دلال.