تحقيق: وسام خليفة/ خاص مجلة "القدس" العدد 346 نيسان 2018

انسدادُ الأُفُقِ السياسي أمام السلطة الفلسطينية والدعم الأمريكي المفتوح لكيان الاحتلال الصهيوني دفعَ "م.ت.ف" إلى طرح خيار فكِّ الارتباط مع الاحتلال على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية، والتي نظمتها اتفاقيتا "أوسلو" و"باريس الاقتصادية"، ممَّا فتحَ باب النقاش حول مدى إمكانيّة تطبيق هذه الخطوة وجدواها الفعلية وكيفيّة ردِّ الولايات المتحدة و(إسرائيل) عليها. وللوقوفِ على أبعادِ وتَبِعَات هذا الطرح التقت مجلّة "القدس" كلّاً من المحلِّل الاقتصادي د.هيثم دراغمة والمحلِّل السياسي عبدالمجيد سويلم.


فكّ الارتباط الاقتصادي مرهونٌ بالتحلل من الهيمنة الإسرائيلية
يرى المحلِّل الاقتصادي د.هيثم دراغمة أنَّ ما يدور من حديث مؤخَّرًا في اللجنة المركزية لحركة "فتح" والحكومة الفلسطينية عن فكِّ الارتباط الاقتصادي مع الاحتلال بشكل أُحادي الجانب، أيّ من جانب الحكومة الفلسطينية فقط، كان يجب أن يسبقه بحث مسألة السيادة على المعابر الفلسطينية والموانئ والأجواء، والتي بدونها لن يكون هناك جدوى لفك الارتباط الاقتصادي على حدِّ تعبيره. ويوضح: "فكُّ الارتباط الاقتصادي في وضعنا الحالي يُجسِّد مشكلةً بسبب تشابك العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال وعدم امتلاكنا قرارًا مستقلاً في سياساتنا الاقتصادية، من جهة، وعدم تكافؤ القوَّتين الاقتصاديّتَين بيننا من جهة ثانية، فاقتصاد الاحتلال معقَّدٌ وقويٌّ وذو ارتباطات عالمية، في حين أنَّنا فقدنا السيادة على اقتصادنا لفترة طويلة تجاوزت 25 عامًا، ومنذ ذلك الوقت والعلاقة الاقتصادية بيننا تخدم الاحتلال. لذلك يجب أن يدور الحديث أولاً عن آلية للخروج من الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية المتنامية حتى تكون لنا القدرة على رسم سياستنا الاقتصادية المستقلة التي تخدم مصلحتنا لا مصلحة الاحتلال".
ويتابع د.دراغمة: "نحن الآن نعملُ على سياسة اقتصادية جديدة تخدم اقتصادنا، ولدينا فرصة حقيقية للنجاح لامتلاكنا الموارد والأدمغة، ولكن الواقع الاقتصادي مرهون بالوضع السياسي، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً مهمًّا هل نحن قادرون فعلاً على فك الارتباط؟ فنحو 9 مليار شيكل من ميزانيّتنا هي حصتنا التي تدفعها لنا (إسرائيل) من أموال الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون بعد تحصيلها حصتها، لذلك علينا البدء بالتدريج بالانفكاك عن الاحتلال، والأفضل أن تُستخدَم هذه الخطوة كمناورة سياسية لأخذِ مكاسب، ولكن حتى اللحظة يبدو طرح فك الارتباط الاقتصادي (بيع أوهام) لا أكثر، إذ كيف سيسعنا الانفكاك بدون معابر ولا حدود برية وبحرية وجوية ولا حتى وحدة اقتصادية واحدة مع غزّة على الأقل؟! كما أنَّ السلطة الفلسطينية تستوعب 165,000 موظَّف يعودون برافد اقتصادي على السوق الفلسطيني و128,000 عامل داخل الخط الأخضر يعملون في (إسرائيل) وهُم رافدٌ مهمٌ للسوق الفلسطيني، وفي حالة الانفكاك الاقتصادي سيكون علينا إيجاد بدائل لفرص العمل، وأن نعمل على إعادة صياغة العلاقة بيننا وبين المانحين العرب والأوروبيين، لأنَّ معظم ما يُقدِّمه المانحون، ويقدر بـ70% من ميزانيتنا، يذهب منها 70% لجيب الاحتلال لأنَّنا نأخذ منهم المواد الخام لتسيير عملنا على صعيد الصناعة والتجارة والخدمات، ولكن هل يقبل المانحون مواصلة دعمنا إذا انفككنا اقتصاديًّا عن الاحتلال؟ وهل يقبلون أيضًا بتحويل مساعداتهم من مشاريع استهلاكية وخدماتية إلى مشاريع تُحوِّلنا لدولة منتجة؟".
وينوِّه د.دراغمة لانشغال العالم اليوم عن القضية الفلسطينية واستغلال (إسرائيل) ذلك للضغط على السلطة، مُشدِّدًا على ضرورة لفت نظر العالم إلى خطورة الوضع الحالي وإمكانية انهيار السلطة الفلسطينية إذا لم تُدعَم اقتصاديًّا وسياسيًّا.
وحول أبرز الخطوات الممكن انتهاجها للتخلُّص من السطوة الاقتصادية للاحتلال يقول: "يجب علينا تعديل سياساتنا الضريبية؛ وحماية المنتج المحلي، ودعمه، وزيادة حصته في السوق الفلسطيني؛ والتعاطي بجدية مع خطورة توفُّر المنتجات الإسرائيلية في أسواقنا؛ وخفض استيرادنا للبضائع، والاعتماد على انتاجنا وقدراتنا الذاتية. ولكن علينا في الوقت ذاته أن نكون واقعيين ومتوقّعين لردّة فعل العالم إزاء هذه الخطوات، وعلينا أن نسأل هل الشارع الفلسطيني جاهز لتحمّل عقباتها؟ فالاحتلال بلا شك سيرد عبر عدّة إجراءات منها قطع أموال المقاصة عنا، ومحاربة المنتج المحلي، ومحاصرة المدن الفلسطينية استنادًا إلى "اتفاق باريس الاقتصادي" الذي أوضح شكل العلاقة الاقتصادية مع الاحتلال، كما ستنقطع الرواتب وقد يخسر آلاف العُمّال الفلسطينيين وظائفهم داخل الخط الأخضر. وهنا يجب أن نعرف مدى استعداد الاحتلال لتعديل الاتفاقات السابقة ما بيننا، وباعتقادي أنَّ الاحتلال قد يقبل بحلول اقتصادية بيننا وبينه، وهي قضايا طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أكثر من مناسبة، ولكن برأيي فإنَّ مفتاح حل الأمور اقتصاديًّا هو الحل السياسي الذي سيضمن لنا الكثير من المقوّمات لنصنع اقتصادًا مستقلّاً".
ويُضيف: "كذلك على الشعب الفلسطيني أن يكون جاهزًا لأيِّ سيناريو سينجم عن فكّ الارتباط الاقتصادي مع (إسرائيل)، وعلى الحكومة جس نبض الشارع وجاهزيّته، فنحن لا نُريد شعارات فقط، إذ ما الفائدة من تغيير اسم سُلطة النقد إلى البنك المركزي إذا بقيت المهمّات كما هي؟! وما الفائدة من تغيير اسم وزارة الشؤون الاجتماعية إلى التنمية الاجتماعية من دون تغيير طريقة الإدارة؟! فوزارة التنمية الاجتماعية في الخارج مسؤولة عن مشاريع تنموية لا عن مساعدات بسيطة كما يحدث عندنا.. وبكلِّ صراحة أنا لا أسعى لنشر الإحباط أو تحطيم المعنويات، ولكنَّني أتحدَّث بواقعية وأُحلِّل الأمور كما هي".
فك الارتباط سياسيًّا ممكن أمَّا أمنيًّا فغير وارد!
يبدو فكُّ الارتباط السياسي مع الاحتلال أمرًا قابلاً للتطبيق من وجهة نظر المحلِّل السياسي عبدالمجيد سويلم، وفي هذا السياق، يقول: "نحن لسنا مُلزمين بعلاقة سياسية مع الاحتلال إلّا في حدود ضيِّقة للغاية لا تُعتبر حتى من حيثُ المبدأ علاقات سياسية عامّة، وإنَّما لها علاقات سياسية تقتضيها بعض الظروف الخاصة، ولذلك فك الارتباط على هذا الصعيد ممكن، بخلاف الجانب الاقتصادي".
أمَّا على المستوى الأمني فيرى سويلم أنَّ بعض القضايا في هذا المجال غير قابلة للانفكاك، ويُضيف: "بعضُ القضايا تتطلَّب وجود علاقة أمنية مع الإسرائيليين، وهو ما يعرفه ويفهمه الجميع، ولكن المشكلة في الشعارات والعنتريات الفلسطينية التي تُصوِّر التنسيق الأمني أنَّه نوعٌ من الخِدمة التي تُقدِّمها السلطة لمصلحة أمن (إسرائيل)، وهو للأسف مفهوم موجود في عقول الناس الذين يناكفون بعضهم بعضًا سياسيًّا، إلّا أنَّ الأمر على أرض الواقع مُغاير تمامًا لما يحاولون ترويجه، فالسلطة لا تخدم (إسرائيل)، وعندما تتَّخذ أو تُنفِّذ إجراءً أمنيًّا فهي تقوم بذلك دفاعًا وحمايةً لمصلحة الفلسطينيين، فقوى الأمن مثلاً تعتقل مَن يحمل سلاحًا غير شرعي، وبالطبع فالسلطة لا تتَّخذ هذا الإجراء خدمةً لـ(إسرائيل)، وإنَّما لأنَّ حمل السلاح ممنوع، وكذلك الأمر بالنسبة لتنفيذ العمليات العسكرية، فهذه المسائل تُمثِّل قناعة واستراتيجية، وليست سرًّا وليست مطروحةً باعتبارها نوعًا من الازدواجية في سلوك وممارسة السلطة. لذلك أعتقدُ أنَّ مفهوم التنسيق الأمني هو مفهوم غامض ومُسيَّس بعيدًا عن الفهم الموضوعي والواقعي له، وبرأيي هناك تنسيق أمني في غزّة مثلاً أكبر بكثير ممَّا يوجد في الضفة الغربية، وإذا كان التنسيق موجودًا هنا في الضفة على مستوى مسدس فالتنسيق في غزة على مستوى صواريخ، وأنا أرجو ألّا نبقى أسرى هذا المفهوم العنتري المسيّس البعيد عن الواقع".
وعن تصوُّره لما قد تؤول الأوضاع الفلسطينية إليه في حال فكِّ الارتباط الأمني يقول: "برأيي ستقفُ بعض الدول إلى جانب السلطة، فلا تُوجد مشكلة حول وقوف الدول لجانب السلطة ودعمها لها، ولكن المشكلة في علاقة السلطة السياسية بالعالم العربي وعجز العالم العربي على التصدي للأمريكان والإسرائيليين وبالتالي كيف سيترجم موقفه الداعم للسلطة في حال عجزه عن التصدي لهم. ومن هنا أعتقد أنَّ قرار فكّ الارتباط قيد الدراسة بتمعُّن وليس قرارًا نهائيًّا، فالموضوع سيحتاج مَزيدًا من الوقت والتدقيق".