صدرت في إسرائيل ورقة عمل فريدة من نوعها، تتحدث عن حملة انتقادات عالمية تواجهها، وتضع خطة لمواجهة هذه الحملة.
الغريب في ورقة العمل هذه، الصادرة عن (معهد هرتسليا)، الذي يمكن اعتباره أهم هيئة تخطيطية إسرائيلية، بسبب كثافة النخب التي يضمها، وبسبب أهمية المواضيع التي يبحثها في مؤتمر سنوي ينعقد لهذه الغاية، أنه يقدم في ورقته الجديدة تصورا واضحا لما تواجهه إسرائيل من انتقادات، ولكنه يقدم في المقابل تصورا عاما وغامضا لأسلوب مواجهة تلك الانتقادات. ولا يعود هذا التناقض إلى ضعف في الكفاءة، إذ العكس هنا هو الصحيح، ولذلك يمكن القول إن الخبراء الإسرائيليين الأكفاء يتعمدون تقديم صياغة غامضة لأسلوب الرد الذي سيتبعونه، حتى لا يتنبه له الخصوم، وحتى لا يستعدوا لمواجهته.
الوضوح نجده في الصيغ الإسرائيلية التالية:
«إن الكيان يتعرض في السنوات الأخيرة لهجوم سياسي حاد، ولانتقادات عالمية هائلة».
و«مكانة إسرائيل تتحول في أماكن كثيرة إلى تحد أمام وجودها، وباتت هناك علاقة مباشرة بين الأحداث الأخيرة والتراجع في مكانتها الدولية، لا سيما نتائج حربي لبنان (2006) وعملية الرصاص المسكوب (حرب غزة)».
و«إن عمل إسرائيل لا يعطي ردا فعالا على التحدي الذي تواجهه.... على أساس آيديولوجي وقومي عربي وإسلامي، لذلك يتزايد حدوث إخفاقات أخرى في الصراع من أجل تعزيزها كدولة ديمقراطية».
أما الغموض الإسرائيلي المقصود، فنجده في البنود التي تقترحها ورقة العمل لمواجهة الأخطار. وهنا نقرأ بنودا عامة وغامضة كما يلي: «وصف إسرائيل كدولة عدوانية، خارقة للقانون الدولي، ساعد جهات نزع شرعيتها.... وقد يكون لإعادة وصفها أبعاد استراتيجية في قدرتها على نقل رسالتها. وبهذا الشأن تجدر الإشارة إلى أهمية نشاطاتها للمساعدة الدولية».
و«تعزيز منظومة العلاقات مع النخب وأصحاب النفوذ هو العائق الأكثر فعالية ضد نزع الشرعية».
و«حشد الجاليات اليهودية، فهناك مجموعات موجودة... كالأكاديميين والمنظمات غير الحكومية، ورجال الأعمال والطلاب، يجب حشدها استعدادا لتعاونها مع الخارج».
هذه البنود، وبنود غيرها، تشكل خطة المواجهة للدفاع عن إسرائيل وسمعتها، يملك واضعوها القدرة على وضعها كخطة عمل شاملة تتميز بالشمول والوضوح، ولذلك نرجح أن العمومية والغموض هنا أمر مقصود، وبخاصة أن الحملة التي تواجه إسرائيل لا تأتي كلها من خصومها التاريخيين، إنما بدأت تأتي في السنوات الأخيرة من قبل أصدقاء إسرائيل وأنصارها، بل وبدأت تأتي حتى من داخل إسرائيل نفسها، وهذا ما لا تريد ورقة الخبراء الكبار في «هرتسليا» كشف النقاب عنه، حتى لا تظهر من خلال ورقة رسمية على أنها تريد خوض معركة سياسية أو إعلامية ضد حلفائها. ولتوضيح هذه المسائل، من المفيد أن نستعرض بإيجاز شديد بعض أبرز ملامح النقد الذي تواجهه إسرائيل.
أولا: النقد الذي جاء من داخل النخبة الإسرائيلية، وحمل رايته الكتاب الذين عرفوا باسم (المؤرخون الجدد، وعرف بعضهم على نطاق واسع مثل «بني موريس - توم سيغف - آفي شلايم»). وقد ركز هؤلاء على نقض الرواية الإسرائيلية عن كيفية نشوئها، وتقديم رواية واقعية مأخوذة من الأرشيف الإسرائيلي السري بعد أن تم الكشف عنه، تروي حقيقة ما جرى من عمل منظم لإجبار اللاجئين الفلسطينيين على الهجرة عام 1948، خلافا للرواية الرسمية التي تتحدث عن الفلسطينيين الذين هربوا من بيوتهم بإرادتهم.
ويقدم كاتب آخر من المؤرخين الجدد هو (باروخ كيمرلنغ)، دراسة مفصلة عن شخصية آرييل شارون كقائد عسكري وسياسي إسرائيلي كان أنموذجا في صياغة وتطبيق المسار الاسرائيلي لتفكيك الوجود الفلسطيني، معتبرا أن شخصية شارون أساسية في عملية الملاحقة للشعب الفلسطيني، التي هي جزء عضوي من المشروع ، مثل مشاريع الاستيطان الكبرى وما سواها. ونجد من داخل إسرائيل أيضا، عالم الآثار الإسرائيلي الأبرز (إسرائيل فلكنشتاين)، الذي نشر وأكد أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تؤكد أي صلة لليهود بمدينة القدس. أما خارج نطاق النخب الإسرائيلية، فإن أصدقاء إسرائيل يشكلون أكبر ناقد لها.
ومن هؤلاء القناصل الغربيون العاملون في مدينة القدس، فهم أعدوا مذكرة قدمت سرا إلى الحكومة الإسرائيلية، ولكن صحيفة «هآرتس» كشفت النقاب عنها، وجاء فيها: «إن الحكومة الإسرائيلية وبلدية القدس تعملان بموجب استراتيجية ورؤية» تهدف إلى تغيير الميزان الديموغرافي في المدينة. «كما أن الحكومة والبلدية تقدمان المساعدة لجمعيات اليمين من أجل السيطرة على المدينة وبخاصة منطقة الحرم الشريف». وقد اقترحت المذكرة فرض عقوبات اقتصادية على المستوطنين في القدس، وبحث وسائل منع تقديم مساعدات أوروبية لهيئات الاستيطان في القدس.
وعلى غرار القناصل، شن (جان زيغلر)، مقرر اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في تقريره المعنون بـ«الحق في الغذاء»، هجوما عنيفا على إسرائيل قائلا إنها نظام استعماري، وهو الوحيد في العالم الذي يرفض الالتزام بالقانون الدولي. وقال: «ما لا أستطيع استيعابه هو تواطؤ الاتحاد الأوروبي مع الاحتلال الاسرائيلي بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي تحميه وتموله».
ثم هناك الموقف الأوروبي الأكثر دلالة وحدة، المتمثل في الاستعداد لمحاكمة الجنرالات الإسرائيليين كمجرمي حرب. فالجنرال (دورون ألموج) كاد يعتقل في بريطانيا، لولا تدخل سري من بعض الأوساط المطلعة التي نصحته بالمغادرة. والجنرال (موشيه يعالون) تراجع عن القيام بجولة كانت مقررة له في بريطانيا لإلقاء محاضرات بسبب دعوى قدمت ضده وكانت ستؤدي إلى اعتقاله. وبسبب ذلك، أمرت إسرائيل كل جنرالاتها بألا يتحركوا باتجاه أوروبا إلا بعد استشارة الجهات المعنية للتأكد من عدم اعتقالهم أو محاكمتهم .
إضافة إلى كل هذا، يجب ألا ننسى بروز المنظمة الأميركية التي حملت اسم (جي ستريت)، التي شكلها عدد من رموز اليهود الأميركيين الليبراليين، بمساعدة شخصيات معروفة في المجتمع الإسرائيلي، بهدف مساندة جهود السلام في الشرق الأوسط، والوقوف في وجه منظمة (إيباك) التي تدعم إسرائيل، رافعين في وجهها شعار (مؤيدون لإسرائيل... مؤيدون للسلام). وتحاول هذه المنظمة الأميركية اليهودية دعم مرشحي الحزب الديمقراطي المؤيدين للسلام، في وجه المرشحين الجمهوريين المؤيدين لسياسات اليمين الإسرائيلي.
وبهذا، نرى أن الحملات المضادة لإسرائيل، بدأت تظهر داخل المجتمع الإسرائيلي أولا، ثم من داخل الجهات الغربية المؤيدة لإسرائيل ثانيا. وبدأت تظهر أخيرا من داخل اللوبي الأميركي الذي يشكل أداة الدعم الأساسية لإسرائيل في أميركا. ولهذا، فإن خطة المواجهة التي أعدها خبراء «هرتسليا» بغموض مقصود، هو تهيؤ لبدء معركة إسرائيلية في أوساط حلفاء إسرائيل، لا في أوساط حلفائها التقليديين. وهذا هو التغير الجوهري الذي دفعها لصياغة مذكرتها بغموض مقصود.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها