بقلم: بكر ابو بكر/ خاص مجلة "القدس" العدد 342 تشرين الاول 2017

في العام 1968 تقدمت حركة فتح بمبادرة تقدمية حضارية طرحت من خلالها فكرة إقامة دولة فلسطين من البحر الى النهر يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود سواسية، فيما عرف لاحقا تحت اسم الدولة المدنية أو الدولة الديمقراطية أو الدولة العلمانية وفق تفسير حركة فتح في المؤتمر الثالث،"1" وما أصّل له د.نبيل شعث في دراسة لاحقة له حينها بأنها دولة ديمقراطية لكل مواطنيها فلا تميز بينهم على أساس العقيدة والدين أو الجنس أو الطائفة.
في بدايات الانطلاقة للثورة الفلسطينية الحديثة كانت فكرة تحرير أرض فلسطين من الاحتلال الذي غرسته بريطانيا وقوى الغزو الاستعماري في بلادنا تعني تصفيته سياسيا واقتصاديا وعسكريا، أو وفق نص النظام الأساسي لحركة فتح بمواده: "المادة (12) – تحرير فلسطين تحريراً كاملاً وتصفية دولة الاحتلال الصهيوني اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً.المادة (13) – اقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة على كامل التراب الفلسطيني وتحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة دون تمييز في العنصرأوالدين والعقيدة وتكون القدس عاصمة لها"."2"
 ولم يكن من دليل في الأدبيات على التخلص من السكان الجدد من الأوروبيين اليهود (بغالبهم) الذين قدموا لفلسطين تحت ذريعة "بلفور" بانشاء (وطن قومي لليهود في فلسطين) أو تحت إطار قانون (حق العودة) الذي سنته حكومة الكيان الجديد بعد اعلانها عام 1948 أي أن فكرة تصفية الكيان سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا تفترض التخلص من (النظام) وهو النظام الاسرائيلي الذي برزت هيئته اليوم كنظام قيمي إرهابي وكنظام فصل عنصري حقيقي (ابارتهايد) تجب مقاومته حتى بعد زوال الاحتلال عن أرض العام 1967 وكما يقول الكاتب الاسرائيلي (ايلان بابِه) وزميله بذات المدرسة (يوري ديفس) إذ ربط (بابِه) بين الحرية من الاحتلال بالحرية من الاستعمار الاسرائيلي سياسيا واقتصاديا وهيمنة متعددة أو وفق ما كانت حركة فتح قد أصلته بالقول بالمادة 8 من نظامها الأساسي: الوجود الاسرائيلي في فلسطين هو غزو صهيوني عدواني وقاعدة استعمارية توسعية وحليف طبيعي للاستعمار والامبريالية العالمية.
 القبول بالآخر الذي لا يقبل بنا
لقد تبلور في فكر الحركة الوطنية الفلسطينية عامة فكرة القبول بالآخر انسانيا رغم احتلال نظامه لأرضنا لا القائه بالبحر كما كانت الدعاية الصهيونية تروج ومازالت، وإن كان ذلك تدريجيا بدليل أن الميثاق الوطني الفلسطيني اعتبر المقيمين في فلسطين قبل الغزو الصهيوني (الفرضية أنه منذ العام1917) هم فلسطينيون وهذا يشمل أتباع الديانة اليهودية،"3" رغم أن المفاجأة الكبرى في العام 2017 تأتي في وثيقة حركة "حماس" التي ترى فيمن سكن فلسطين قبل العام 1947 أنه فلسطيني ما يرفع من نسبة اليهود من 5% الى 30% وهذه الأخيرة نسبتهم قبل النكبة.
ورغم أن ياسر عرفات في خطابه الشهير في الأمم المتحدة عام 1974 كان قد أوضح بجلاء معنى الدولة الديمقراطية في فلسطين والموقف من السكان بالقول: "حيث سيعيش كل اليهود الذين يعيشون الآن في فلسطين واليهود المستعدون أن يعيشوا معنا في سلام وبدون تمييز".
التصفية للنظام والكيان لم تعني في الفكر السياسي الفلسطيني تصفية للأفراد والمجتمع أو للسكان الجدد بتاتا رغم ما يضمره الفلسطيني أو يتمناه الكثير، أو بالمقابل الاسرائيلي الذي يعمل يوميا جاهدا -ولا يتمنى فقط- للتخلص من الآخر، وهو ما بلور فكرة الدولتين الأكثر عدالة في مقابل حقيقة دولة واحدة ذات نظام فصل عنصري ما هو قائم الآن على أرض الواقع.
جدل الدولة ونهايته بالدولتين
يقول الباحث جميل هلال: "استمر النقاش-داخل الثورة الفلسطينية- حول موضوع إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية لبعض الوقت، لكنه فقد أهميته تدريجيا وانتقل الاهتمام إلى حل يقوم على أساس الدولتين، وذلك بعيد إقرار برنامج العشر نقاط من قبل المجلس الوطني الفلسطيني في عام1974"."4"
ويقول الباحث عمر الغول:"الشعب العربي الفلسطيني وقيادته ونخبه السياسية منذ العام 1974 عندما تبنوا في دورة المجلس الوطني النقاط العشر، والتخلي عن هدف الدولة العلمانية الديمقراطية، التي كانت الهدف الناظم للحركة الوطنية منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع يناير 1965، وبعد هزيمة حزيران 1967 إنما جاء استجابة لشروط الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي، وتكريسا للمسألة الفلسطينية في الجيوبوليتك وعلى المستوى الأممي في أعقاب حرب اكتوبر 1973، وبعد صدور قراري مجلس الأمن الدوليين 242, 338"."5"
مضيفا: "وحققت الثورة الفلسطينية العديد من الإنجازات الوطنية على هذا الصعيد، وتجلى ذلك في دورة المجلس الوطني عام 1988 عندما اعلن الرئيس الراحل عرفات وثيقة إعلان الإستقلال".
3 أسباب لتعملق فكر اليمين الاسرائيلي
إن حدة الاستقطاب في المجتمع الاسرائيلي والاتجاه نحو تبني طروحات  اليمين الصهيوني وامتدادا لحالة التطهير العرقي للعرب الفلسطينيين في الاربعينات والخمسينات من القرن العشرين مرتبط بسلب الأرض قد جعلت من لغة اليمين العنصري الاقصائي هي اللغة الاسرائيلية السائدة اليوم والتي بدأت ترفض حتى الخروج من الضفة الغربية المقرر حسب "اتفاقيات أوسلو" أن يتم التفاوض حولها وفق المواضيع الخمسة التي تشكل الملفات النهائية وذلك عام 1999.
إن تعملق فكر اليمين الصهيوني أصبح يقوى في عوامل ثلاثة متراكبة الأول: نتيجة زيادة الاعداد لهذا اليمين داخل (اسرائيل) سواء لسبب الولادات للتيارات المتدينة، أو للصراع السياسي الداخلي الذي أذكى وجودهم مستندا لأرهاب الفكر الصهيوني المتعانق مع خرافات التوراة التاريخية ، والذي يشيع دوما انهم يتعرضون لمحرقة جديدة "هولوكوست"،"6"
والعامل الثاني هو نجاح الاسرائيلي في استغلال أو(المساهمة الفعالة في) نزع القدرات العسكرية العربية كليا، وتفتت المحيط العربي والاقليمي بين الطوائف والمحاور وبين التجزيء والتقسيم والاقتسام، واختراقه.
وكان العامل الثالث في تعملق الفكر الصهيوني اليميني "الابارتهايدي" هو الدعم اللامحدود للادارات الامريكية المتعاقبة، فما بالك مع الادارة الجديدة فاقعة اللون.
في ظل تعملق الفكر الصهيوني اليميني يصبح التطهير العرقي مربوطا بسلب الأرض سمة للتعامل الحالي،وكما كان مع أراضينا في العام 1948 ، ويصبح منطق العصابات والاستعمار هو السائد في الضفة الغربية تمهيدا للضم الزاحف سواء تحت مظلة دولة المستوطنين وعصاباتهم أو في سياق الإدعاء أن الضفة الغربية (ما يسميها نتنياهو وأضرابه يهودا والسامرة) جزء من "أرض" "اسرائيل" ويصبح اتفاق "أوسلو" مِزَقا، وبناء عليه فإن حل الحصول على استقلال دولة فلسطين تحت الاحتلال يصبح حلما بعيد المنال فيبرز حل الدولة الواحدة ثانية، وهو الحلم أو الهدف الذي تراجع منذ العام 1974 ليحل محله هدف إقامة الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين فيما أسمي بالادبيات الثورية الحل المرحلي.
لا نريد أن نتعرض لمحطات النضال الوطني التي أذكت الهدف الأول والصراعات التي دارت حوله حتى تم تبنيه في العام 2017 من كافة الفصائل بما فيها "حماس"  (باستثناء الجهاد الاسلامي)، ولن نخوض بالتذبذب المحيط بالفكرة مع الخلافات الداخلية العميقة حوله خلال المسيرة، ومع طول مدى الاحتلال ومراوغاته وأكاذيبه وقمعه وسلبه للأرض وهيمنته، وانحسار البساط من تحت أرجلنا، ولكننا سنتعرض لذات الفكرة الأولى والثانية أي لفكرة الدولة أم الدولتين من حيث هي رغبة أم غاية، حلم أم هدف؟ وهنا يبرز الفرق بين الحلم وبين الهدف.
 الدولة الواحدة الآن تكتيك أم استراتيجية!
هل كنا نحلم عندما طرحنا فكرة الدولة الديمقراطية منذ الستينات أم كنا نتعامل مع معطيات الواقع في ظل الامكانيات والنظرة المستقبلية - وربما مع كثير من الأمل والتفاؤل- وفي رؤية استراتيجية؟ وعندما تغيرت الرؤية أكانت مبنية على أسس ومقومات أم بنيت على عجل؟
في الموضوع يمكننا قول الكثير، ولكن لا يمكن أن نغفل الزلزال الذي حصل بتغيرالموقف المصري وخروج مصر عسكريا من الصراع العربي الاسرائيلي نهائيا إثرتوقيع "اتفاقيات كامب ديفد""7" الذي كرس لدى القيادة الفلسطينية عمليا فكرة إقامة الدولة الفلسطينية على أي شبر يتم تحريره أواسترداده ما أصبح لاحقا العمل على تحقيق استقلال دولة فلسطين تحت الاحتلال وبالأخص منذ العام 2012 "8"أو ما اصطلح عليه باسم "حل الدولتين" رغم أن  الدولة الأولى أي "اسرائيل" قائمة، ولا تكتمل الا بالثانية حسب القرار 181 قرار التقسيم، كما لا يمكننا الا أن نسجل السعي الاسرائيلي الحثيث لتدمير حل اقامة الدولة الفلسطينية لا سيما بعد العام 2000 إثر الانتفاضة الثانية التي جاءت نتيجة لتفلت الكيان الصهيوني من استحقاقات المرحلة النهائية لاتفاقيات أوسلو.
ما بين الحلم والهدف سعي طويل ومشوار بحجم الألم، والأمل، فمازال من المبكر كثيرا أن ندرج هدف الدولة الواحدة على جدول أعمال فلسطين والأمة، بل ومن العجلة أن نفترض امتلاكنا للخيارات بهذا الشأن، والخيارات تحتاج لقوى تسندها ومعادلات معقدة، وكثير من التخطيط والجهد والعرق والدم، لذا فنحن في الحقيقة لا نمتلك الا ما حصلنا عليه عربيا وفلسطينيا وعالميا حتى الآن أي الاعتراف بحقوقنا والتي منها إقامة الدولة الفلسطينية على جزء من الأرض أي على حدود العام 1967.
يقول الكاتب هاني المصري عن خطاب الرئيس بهذا الشأن:"إن التهديد اللفظي بحل السلطة من دون توفير الرغبة والقدرة على تنفيذه شأنه شأن التهديد بدولة الحقوق المتساوية، سيؤدي إلى إضعاف الثقة بالقيادة الفلسطينية، محليًا وعربيًا ودوليًا، وإذا تحول إلى خيار معتمد، كردة فعل، من دون توفير متطلباته فسيعطي "إسرائيل" فرصة ذهبية لاستكمال تطبيق مخططاتها الرامية إلى تمرير الحل الإسرائيلي بإحدى صيغه، التي تلتقي كلها على عدم الاعتراف بأي حق من الحقوق الفلسطينية"."9"
نستطرد فنقول: ألم يحدثنا الحليف السوفيتي فترة الصراع بين الدولتين الكبريين أننا معكم حتى حدود 1967 ليزيلوا من أذهاننا حلم التصفية للكيان الصهيوني، وما يمثل هذا الحديث الا تحييداً لقوة كانت الكثير من التنظيمات اليسارية الفلسطينية تظنها مع النضال الفلسطيني وأهدافه بالتحرير الكامل لفلسطين.
استراتيجية خيار أم حلم!
هل نمتلك الخيارات أم نمتلك الاختيار بين الحلم والواقع؟ وإن كنا نحلم بكل فلسطين دولة ديمقراطية وهذا الحلم لن يزول من أطفالنا الى أن يُدرج على جدول أعمالهم في مرحلته التاريخية التي تقتضيه.
 أما حقيقة الواقع القائم الذي لا يمكن تجاوزه اليوم هو أن مكاسب الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 لا يمكن التفريط بها، والقيام فجأة ودون سابق انذار بنقل النضال نقلة سريعة للمطالبة بدولة واحدة في فلسطين التاريخية من البحرالى النهر، وكأننا نحتفل مع اليمين الصهيوني حقيقة الأمر بما يسميه (تحرير يهودا والسامرة-أي الضفة)، أو كأننا نسلم البلاد كلها للاسرائيليين ليُمكّنوا المستعمرين/المستوطنين من دولتهم، ونظل نحن مِزقا ومعازل ومتاهة طرق وتجمعات محاصرة.
 بل إن نقلة فجائية كهذه لا تستقيم بالأهداف، فالفرق واضح حيث الهدف يجب أن يرتبط بعوامل السراطية (=الاستراتيجية) من القدرات والفرص والارادات، ويتمتع بمزاياه الخمسه (أنه محدد ومقبول ومعقول وقابل للقياس ومحدد بزمن) التي حتى اليوم لا تنطبق على فكرة الدولة الواحدة كهدف .
إن إعلان هدف الدولة الواحدة وفق رؤيتنا العادلة ومعنا جزء قليل من المستنيرين اليهود يعني انها تقر بأرض فلسطين لنا، ويعني أنها تعترف بالسكان من المهاجرين اليهود لبلادنا -من أوروبا وروسيا وبعض العرب- وفق أي صيغة مما ذكرناه، مع السكان الأصليين من آلاف السنين أي نحن الفلسطينيين وبحقوق سياسية وقومية.
ان السعي الاسرائيلي المتعاضد مع الامريكي مهما كان مسماه هو يريد الوصول بنا الى دولة ونصف فقط، أي بقاء دولة "اسرائيل"، وتوسعها، ويبقى نصف الدولة أو شبه الدولة أو البلدية الكبرى أوالمعازل أو سمها ما شئت، ولكن ضمن نطاق الهيمنة الاستعمارية الاسرائيلية التي تتطيّر من السكان الفلسطينيين وتعمل كل جهدها للتخلص منهم قتلا او طردا او تهديدا، وسلب أراضيهم يوميا في حيزها وفي حيز الضفة الغربية بل وقطاع غزة.
  الانتقال الاستراتيجي إن حصل اليوم للدولة الواحدة، يعني للاسرائييلين -الذين قطعا سيرفضونه بمفهومنا- يعني السيطرة الكاملة على أرض فلسطين كلها، ويعني دفن مشروع الدولة الفلسطينية "على جزء من الأرض"، ويعني إمكانية اقامتها في غزة فقط، ويعني أيضا تحولنا الى مقيمين من الدرجة العاشرة أومجموعة أناس بدون جنسية في بلادنا، ويعني فقداننا لكل الانتصارات السياسية التي حققناها ضمن هدف الاستقلال لدولة فلسطين، لماذا هذا؟
بكل بساطة لأن الذي يحكم أي معادلة ليس الرغبة أو الحلم أو الأمل بل موازين القوى، وهنا تكون السياسة وحكمة القيادة تتجلى في اتخاذ القرار ضمن فهم عميق للقدرات وللموازين وبالبصيرة، ورؤية للمتغيرات وضمن سراطية (استراتيجية) شاملة، وقدرة على التعامل معها والسير بين الأشواك.
 كنت قد علقت على الموضوع في مقال سابق حيث ذكرت بالخاتمة: أظن في ذلك تفاؤلاً كبيراً ويحتاج لنضال طويل جدا لكنه قد يقود لتقويض مكاسب حققناها دون تحقيق أي هدف.
إن الدولة المدنية الديمقراطية الواحدة فكرة عادلة بحق، ولا يمكن الا أن تكون كذلك فالأرض لنا ومن جاءنا مستعمرا واستقر لا يمكن أن يبيدنا كما حصل في أمريكا واستراليا أبدا، ولكن من الممكن التفكير بالنموذج الجنوب الافريقي حيث تحمّل السكان الأصليون المهاجرين البيض، ولا نقر بترهات الصهيونية واليمين ذات البعد التاريخي التوراتي الزائف، فما لهم الا الاعتراف العالمي المشروط بدولة بالعام 1947 ومن هنا فقط نبدأ تاريخيا.
لن نمل القول أن فلسطين كلها لنا، وهذا كلام ليس عاطفيا بل حقيقة تاريخية حضارية سياسية قانونية، ولكن الانتقال من الهدف الممكن الى الحلم غير الممكن حاليا يعتمد على شرائط من المتوجب علينا توفيرها قبل التهديد أوالتلويح بها، لذا فأن نقيم الدولة الفلسطينية على جزء من الأرض يمثل المقدمة الصحيحة لتغيير موازين القوى وامكانية تحويل الحلم في نضال لاحق لهدف قابل للتحقيق.