خاص مجلة "القدس" العدد 341 أيلول 2017
   تحقيق:  نادرة سرحان

  أينما توجَّهتَ في أحيائه، التي لا تتجاوز مساحتها الكيلومتر المربّع الواحد، يُخيَّل إليكَ بأنَّ زلزالاً قد فتك بالمكان. أثاثُ منازل قد تآكل بفعل النيران، وحيطان توشّحت بالسواد ‏القاتم، وسقوفٌ رسمَ الرصاص عليها صورةً لحرب ضروس طاحنة، والأخطر من ذلك كله، ‏أطفالٌ بات صوتُ الرصاص هاجسًا يؤرقُهُم، والخوفُ لعنتَهم المشؤومة.

هنا مخيّم "عين الحلوة" الذي لم يَعُد اسمه يليق به بفعل الاشتباكات المتجدِّدة فيه من وقت لآخر. ‏فعند انتهاء الحرب التي تنتشل أرواح الكثيرين، يتم البدء بإحصاء عدد الجرحى ‏والقتلى، ومن ثُمَّ التساؤل والمطالبة بالتعويضات والإصلاحات، وتتهافت وسائل الإعلام إلى ‏إسقاط تحليلاتها السياسية بشأن الوضع الأمني الراهن للمخيّم، ولكن أحدًا لا يلتفت للصحة ‏النفسية لأطفال المخيَّم، هذا الجيل الناشئ على العنف والدمار، الجيل الذي شاهدناه يرتحل هنا ‏وهناك مُنتحباً أكثر من مرة في كلِّ عام دراسي بفعل الاشتباكات. الجيل الذي غدا قسمٌ ‏كبير منه إمَّا متسرِّباً من المدارس، أو يعاني من صعوبات تعلُّمية، أو ينتظر الترفيع الآلي ‏الذي تعتمده "الأونروا".‏
ورغم كلِّ ذلك، ما يزال الاهتمام بالصحة النفسية، لا سيما للطفل الفلسطيني الذي يقطن في المخيّم، ضئيلاً ‏جداً مقارنة بهول رداءة الوضع الذي يفرض نفسه. فها هم قد عتبوا إلى السنة الدراسية ‏الجديدة خارجين من اشتباكات ما زالت وقودها مشتعلة، حيث توافدت المدارس فوراً لتسليم ‏القرطاسية لهم تماشياً مع البروتوكول الدراسي، في ظل حضور خجول للمؤسسات المجتمعية ‏التي تُعنى بالصحة النفسية. أمَّا الأطفال فكلهم أملٌ بأن ينتهي العام الدراسي كما بدأ لتوِّه.. ‏بسلام.‏

أطفالٌ يروون تجاربهم مع الأحداث الأمنية
‏"هربنا في إحدى المرات تحت زخّات الرصاص"، هكذا يفتتحُ وليد جلال ابن الـ12 عامًا ‏والطالب في مدرسة "السموع"، حديثه، ويضيف: "كثيراً ما تعرَّضنا للخطر ونحن في المدرسة، ‏إذ تندلع الاشتباكات فجأةً بلا سابق إنذار! ولأنَّ المدرسة لا تتحمَّل المسؤولية، ولئلا ‏يتفاقم الوضع أكثر، يتم إخراجنا من المدرسة وإرسالنا إلى بيوتنا، حتى وإن كان إطلاق النار ‏متواصلاً، حيث نكون حينها في حالة يُرثَى لها من شدّة الخوف".‏
وبسؤاله عن استعداداته للسنة الدراسية الجديدة، يجيب وليد قائلاً:" أتمنَّى أن أدرس وأنجح هذه ‏السنة في جو من السلام، من دون أن أُجبَرَ على مغادرة المدرسة تحت وابل من ‏الرصاص.. أتمنّى وليت مناي يتحقَّق هذه المرة، فقد سئمنا المعارك التي تحرمنا من ما نحب، ‏وتسرق منا طفولتنا".‏
من جهتها، تعاني الطالبة في مدرسة "الناقورة" آيات إبراهيم، والتي لم تتجاوز العشرة أعوام، من ‏رهاب الحرب، فما أن تسمع صوتَ الرصاص حتى يتسلَّل الخوف إلى قلبها، وتعتري ‏الرجفة جسدها الصغير، وتبدأ بالصراخ، حيثُ تقول آيات: "في كلِّ معركة وعندما أسمعُ صوت ‏الرصاص أبدأ بالبكاء والصراخ، ويكاد يُغمَى علي من الذعر، وأحيانًا أمرض بشدة، وفي مرّة ‏من المرّات عندما سمحت لنا إدارة المدرسة بالذهاب إلى بيوتنا بسبب اندلاع الاشتباكات، ضعت ‏في الطريق لمدة طويلة حتى أوصلني شخص لمنزل أهلي. وقد أصبحت عائلتي عند كلِّ اشتباك تترك المنزل وتتوجّه بعيدًا عن صوت الرصاص، فالآن حتى وعندما أسمعُ صوتَ المفرقعات النارية أدخل في حالة ‏نفسية سيئة جداً".‏
أمَّا محمد قاسم ذو الـ14 عامًا، فهو وإن قال إنَّ الحرب لا تخيفه، وإنَّه يبقى في كلِّ معركة حبيس ‏المنزل مع عائلته ويُعايش كلَّ الاحداث، إلّا أنَّ ما أخبرنا به يظهر مدى تأثير الأحداث الأمنية عليه، إذ يقول: "في كلِّ معركة أبقى أنا وأهلي في المنزل والقذائف تتطاير فوق رؤوسنا، ولا ننام ‏الليل من قوة صوتها، وعندما تنتهي المعركة، نخرج أنا وأولاد الجيران لكي نلملم "فشكات" ‏الرصاص وبقايا القذائف، وهذه العادة أصبحت من الطقوس المعتادة بعد انتهاء كلِّ معركة، ‏حتى بتُّ أنا والرفاق نشتري سلاح الخرز في العيد والمناسبات لكي نُجسِّد تمثيلية عن المعركة ‏بيننا ونتسلّى".‏
لكن عرفات صهيون الناجي بأُعجوبة من المعارك الأخيرة له حكايةٌ أخرى مع الحرب ترويها ‏والدته لعدم قدرته على ذلك، فتقول:" عرفات في حالة يُرثى لها صحيًّا ونفسيًّا، ‏فما زالت إصابته شاهدة على هول ما عاناه، ولا يزال يتلقّى العلاج بسبب الرصاصة التي اخترقت ‏رأسه، وها أنا أذهبُ به هنا وهناك لكي أعالجه من إصابته، ولكن مَن يعالج حالته النفسية ويطبطب ‏جراحه؟! من يمحو شروخ الحرب داخله؟! إبني مهزوز من الداخل، ويعاني من ضغط نفسي ‏سيء، وفي كل مرة يُحدِّثني يشرع بالبكاء والصراخ".
وتضيف: "ما زاد الوضع سوءًا بالنسبة لعرفات أنَّ المدرسة رفضت استقباله بسبب ‏وضعه الصحي بحُجَّة أنَّها لا تتحمَّل مسؤوليته إن حصل له شيء وهو في المدرسة، أي أنَّ ابني ‏الآن يخسر سنينه الدراسية بسبب وضع فُرِضَ عليه قسراً، وكذلك لم أتمكّن من تسجيل أولادي الأربعة ‏الآخرين في المدرسة هذا العام". ‏
وتُنوِّه أم عرفات لتردي الوضع النفسي عند أطفال المخيّم عموماً، موضحةً: "لقد سئم أطفالُ المخيَّم ‏ الحرب وأصوات القذائف. الأطفال بحاجة إلى الفرح ‏والأمان والطمأنينة، وهذا ما لا يتوفّر في المخيَّم ولا لدقيقة واحدة!".‏

دور المؤسسات التنموية والتعليمية في تعزيز الصحة النفسية للطفل
بعد كلِّ اشتباك في المخيَّم، تقوم جمعية "نبع" التنموية بالجلوس مع الأطفال للوقوف على مدى تأثُّرهم بالمعارك والأحداث، وَفْقَ المعلِّمة في جمعية "نبع" ميساء ميعاري. وحول أبرز المشكلات التي يتم اكتشافها تقول ميعاري لـ"القدس": "قِسمٌ من الأطفال تراجع ‏مستواه الدراسي، وقِسمٌ آخر أصبح لديه "فوبيا" من صوت الرصاص، بالإضافة إلى حصول ‏حالات ارتفاع السكري، والتبول اللاإرادي عند قِسمٍ كبير منهم، والأكثر خطورة من ذلك كلِّه، هو انعكاس ‏صورة الحرب على واقع الأطفال في حياتهم اليومية، فعندما نطلب من الأطفال تجسيد مشهدٍ جماعيٍّ قصير، يتبادر فورًا إلى أذهانهم تجسيدُ صورة الحرب من قتل ودمار ودماء".‏
وبسؤالها حول الإجراءات التي يتَّخذونها كجمعية في إعادة تقويم الصحة النفسية للطفل، ‏تجيب ميعاري: "نعمل على تقديم الدعم النفسي للأطفال عن طريق الألعاب من ‏خلال إعادة دمج الأطفال في المجتمع، وتشكيل صورة جديدة أكثر جمالاً وسلامًا في ذهن ‏الأطفال، كما أنَّنا نزور المدارس ونبتكر نشاطات جديدة مُفيدة ومُسلية للأطفال".‏
وتضيف: "بالنسبة للأطفال الذين لا يستجيبون معنا، ونجدهم انطوائيين، تُخصَّص ‏جلسات لهم مع الأخصائية النفسية في الجمعية، لأنَّهم يحتاجون معاملةً خاصّةً، فنطلب ‏إليهم رسم الشيء الذي يُفكّرون به أو يهابونه، ومن هنا نحصل على المفتاح إلى ‏شخصيّاتهم". ‏
أمَّا المعلمة في مدرسة "السموع" للبنين إيمان مرعي، فتشير لملاحظتها العديد من المشكلات النفسية لدى الأطفال لا سيما مع بدء العام الدراسي الجديد. وحول طريقة التعاطي مع هذه المشكلات تقول: "عندما نستهدف الطفل ‏فنحن نعمل على عوامل عديدة، منها العامل العاطفي، واللغوي، وعامل الذكاء، وعامل ‏الاندماج الاجتماعي، لأنَّ أطفال المخيَّم يعانون من مشاكل عديدة لا تُعد ولا تُحصى، فهم ‏يعيشون في بيئة حاضنة للعنف، وهذا ما ينعكس على تصرفاتهم. ومن خلال متابعتي ‏الدائمة للأطفال، وإذا أردنا الحديث عن الشق العاطفي، فهم إمّا يعانون من الإفراط في ‏الدلال أو من الإجحاف في العاطفة، وهذا يعود لأسباب كثيرة يأتي الأهل في طليعتها. أمَّا من ‏الناحية اللغوية، فقسمٌ كبير من الأطفال لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ولا عن مطالبهم بصراحة،‏كالمطالبة بإعادة الشرح أو الاستئذان للذهاب إلى دورة المياه، وهناك قسمٌ من الأطفال لا يُحبِّذ ‏اللّعب ضمن مجموعات، ويحاول تجنُّبها قدر الإمكان، كلُّ هذه المشكلات يعاني منها الطفل ‏الفلسطيني في المخيَّم. أيضًا، اليوم أغلب الأطفال يعانون من إفراط في الحركة والنشاط ما يؤدي إلى ‏تشتُّت تركيزهم وتراجع مستواهم الدراسي، بالإضافة لكونهم عدائيين تجاه بعضهم، ‏وهذا أمر طبيعي نظرًا لأنهم يعيشون في بيئة غير آمنة وغير صحية".‏
وتتابع مرعي حديثها قائلةً: "نحن كمدرسة تابعة للأونروا نُشبِّك مع العديد من الجمعيات فيما يخص ‏الصحة النفسية للطفل كجمعية "نبع"، و"ناشط"، و"أطباء بلا حدود"، و"روضة هدى ‏شعلان"، و"Right to Play"، ونأمل أن نُحسِّن من نفسية الطفل المتدهورة".‏
وتضيف: "قبل بدء الخطة الدراسية هذا العام، وضعنا خطةً نفسيّةً للتعامل ‏مع الطلاب بناءً عليها، فكما نُوفِّر للطفل جوًّا دراسيًّا مُعيّنًا، يجب أن نُوفِّر له أيضًا بيئةً نفسيّةً سليمة مُحفِّزة، إذا أردنا منه أن يُنتج ويُفكِّر ويتطوَّر".

رأي الطب النفسي
‏"الوضع الأمني يُؤثِّر على الجميع باختلاف الأعمار، فكيف إذا كان هذا الشخص طفلاً ‏صغيرًا، أي كائنًا أكثرَ حساسية وتأثُّرًا تجاه الأمور، هُنا يزداد الأمر تعقيدًا"، بهذه الكلمات تستهلُّ الأخصائية النفسية سارة البيطار حديثها لمجلة "القدس"، حول تأثير الأوضاع الأمنية على الصحة النفسية للطفل.
وتقول: "الأطفال لا يخافون لمجرد سماع أصوات الرصاص فقط، فحتى وإن لاحظ الطفل ‏الخوف عند أهله سيتأثَّر فورًا، وسيُصاب بحالة نفسية سيئة جدًا، لأنَّ شعور انعدام الأمان ‏أصبح الآن مُضاعفًا، أي انعدام الأمان الخارجي وانعدام الأمان الداخلي المتمثِّل بالأهل، وهذا ‏الوضع يزرع عند الطفل خوفاً دائماً يلازمه حتى ما بعد انتهاء الوضع الأمني".
وتضيف البيطار: "يجب أن نعرف بأنَّ كل طفل يختلف عن الآخر، فهناك أطفال يُفصحون ‏عن مشاعرهم، ويعكسون انفعالاتهم الداخلية إلى الخارج من خلال الصراخ أو البكاء أو حتى ‏الرسم وما شابه، ولكن يوجد قِسمٌ من الأطفال تتَّسم شخصيتهم بالكتمان والغموض، وهنا ‏يترتَّب على الأهل فهم شخصية طفلهم ومراقبتها، فهذا النوع لديه مشكلة في التعبير، ويُفضِّل ‏كتمَ إحساسه بالخوف داخله، لكن لا بدَّ من التذكير بأنَّ شخصية هذا النوع من الأطفال ستغدو مستقبلاً ‏ناقمة وانفعالية وعدائية، لذلك يجب معرفة الطريقة المثلى للتعامل معهم".‏
وختمت البيطار حديثها قائلةً:" لا بدَّ من الإشارة إلى تأثير الحالة النفسية على الوضع الصحي ‏والجسماني للطفل، فهشاشة الحالة النفسية تنعكس إلى الخارج، وتترجم على هيئة أمراض عضوية ‏كالضغط، والسكري، والتبول اللاإرادي، والأنيميا وغيرها من الأمراض".‏
الأطفال هُم ضحيّةٌ لا محالة في الحروب البشعة، فإن لم يُصابوا بأي مكروه جسدي، ‏تصيبهم التداعيات النفسية وتؤثِّر عليهم. وقد يكون الزمن كفيلاً بمحو أو تجاوز الأثر الجسدي أوتأثير الدمار المادي، إلّا أنَّ الأثر النفسي ‏الذي يتركه ما يشاهده ‏الأطفال من صُوَر مؤلمة للمصابين والقتلى، ومن مشاعر خوف ورعب وقلق يختبرونها خلال الأحداث، لن يُمحى بسهولة. ومن هنا، تبرز الحاجة الماسَّة لإيلاء اهتمام كبير بالرعاية النفسية والوسائل المطلوبة لاحتواء ردود ‏الفعل والصدمات على الأطفال، حيث أنَّ غالبية المختصين يؤكِّدون أنَّ آثار الحروب هي ما ‏ستظهر بشكل ملموس لاحقاً على جيل كامل من الأطفال الذين سيحالفهم الحظ وينجون، ‏ولكنهم سيعانون من مشاكل نفسية تتباين حِدتها نسبةً لقدرة استيعاب ووعي الأهل لكيفية ‏مساعدة الأطفال على تجاوز المشاهد التي مرّوا بها. فأيُّ مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال؟.