خاص مجلة القدس العدد 327 حزيران 2016-
بقلم: صقر ابو فخر

حين يدور الكلام على موضوع الاستيطان الاسرائيلي، ينصرف الذهن في العادة، إلى الضفة الغربية وحدها، وبدرجة أقل إلى الجولان السوري المحتل. وتكاد أراضي 1948 تبدو غير مشمولة بتاريخ الاستيطان، وكأن هناك تسليم، في النطاق التاريخي، بأن أراضي 1948 صارت اسرائيل. والحقيقة ان الاستيطان نفسه بدأ في أراضي 1948 بالدرجة الأولى، وان اسرائيل نفسها هي مشروع استيطاني في الأساس، لكنه يختلف تماماً عن نماذج الاستيطان التي عرفتها أفريقيا مثلاً كالاستيطان الفرنسي في الجزائر، أو الإستيطان الهولندي، ثم البريطاني، في جنوب افريقيا وروديسيا (تحول اسمها الى زيمبابوي بعد استقلالها). فالاستيطان الفرنسي في الجزائر كان يريد استغلال الأرض ومَن عليها، بينما الاستيطان اليهودي يهدف إلى استملاك الأرض وطرد مَن عليها. وهذا ما حصل في سنة 1948 حين تمكنت الهاغاناه من طرد السكان الأصليين لفلسطين وإحلال مهاجرين يهود في مكانهم. واليوم تكاد الأرض الفلسطينية في ما تبقى من فلسطين تتسرب بالقوة إلى أيدي الصهيونيين. لكن مكر التاريخ جعل الاسرائيليين يقفون ذاهلين أمام تشبث الفلسطينيين بأرضهم على الرغم من حُمّى  الاستيطان التي تفتك في كل يوم بهذه الأراضي العاصية. وفي ما يلي إطلالة على الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية منذ بداياته الأولى حتى اليوم، ومخاطره الكبيرة على مستقبل قضية فلسطين.

الاستعمار الاستيطاني
ما إن سقطت الضفة الغربية بأيدي الجيش الاسرائيلي في حزيران/يونيو 1967 حتى شرعت السلطات الاسرائيلية على الفور في إقامة أحياء جديدة في القدس، ومستعمرات في الضفة الغربية، علاوة على قطاع غزة والجولان في ما بعد. ففي القدس هدم الجيش الاسرائيلي حي المغاربة لتوسعة الساحة أمام الحائط الغربي الذي يدعونه "حائط المبكى". وبذريعة إعادة إعمار الحي اليهودي في القدس الشرقية استولت اسرائيل على عقارات كثيرة، وأجرت تعديلات فيه وأسكنت يهوداً في تلك العقارات، علماً أن مالكي عقارات الحي اليهودي فلسطينيون  في الأساس، وقد غادر سكان هذا الحي إلى القدس الغربية في سنة 1948. أما في سنة 1967، وبذريعة إعادة هؤلاء اليهود إلى مساكنهم الأصلية، فقد نزعت السلطات الاسرائيلية عملياً ملكية الفلسطينيين لعقارات هذا الحي. وكان أول حي يهودي يُبنى في القدس بعد احتلالها هو حي أشكول في الطرف الشمالي الغربي للقدس، ثم الحي السكني لطلبة الجامعة العبرية. وظهرت بالتدريج مجموعة من البؤر الاستيطانية في القدس الشرقية وحولها مثل "بيت أوروت" التي تطل على مسجد قبة الصخرة، و"معاليه زيتيم" التي تطل على المسجد الأقصى. وجرى ربط "معاليه أدوميم" بالقدس الغربية (أقيمت معاليه أدوميم على أراضي قرية الخان الأحمر وانتهى بناؤها في سنة 1975، ووصل عدد سكانها اليوم إلى 40 ألف نسمة، وهي تطل على القدس من الشرق). وكانت مستعمرة "نفي حورون" من أولى المستعمرات التي بُنيت مبكراً حول القدس (1969) فوق أراضي قرى عمواس ويالو وبيت نوبا التي هدمتها اسرائيل في سنة 1967، ثم تبعتها "عطروت" (1970) القريبة من مطار قلنديا، علاوة على غيلووتالبيوتمزراحي ونفي يعقوب وراماتأشكولوراموت (بُنيت على أراضي قرية النبي صموئيل) وهار حوما (جبل أبو غنيم).
أوضح أريئيل شارون حقيقة التفكير الاسرائيلي في شأن تهويد القدس أو الاستيطان اليهودي في القدس بقوله: وضعنا لأنفسنا هدفاً وهو ألا نترك حياً واحداً في القدس الشرقية بلا يهود. وهذا هو الشأن الوحيد الذي يمكنه أن يضمن القدس مدينة موحدة تحت السيادة الاسرائيلية" (جيفري أرونسون، مستقبل المستعمرات الاسرائيلية في الضفة والقطاع، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996). وفي هذا الميدان جرى تنظيم شبكة مواصلات تخترق أحياء القدس (الشرقية والغربية معاً) بحيث يمكن إخفاء القدس القديمة نوعاً ما، وإظهار  القدس كلها على أنها ذات طابع يهودي، وهذا هو التهويد في حد ذاته الذي يعتبر إحدى النتائج المباشرة للاستيطان.

السياسة والأمن
المستعمرات الاسرائيلية هي، في الجانب الوصفي، منشآت ذات طابع مدني، لكنها تابعة لقوة محتلة ذات طابع عسكري. وكانت إحدى مهمات الجيش الاسرائيلي، بعد احتلاله الضفة الغربية في حزيران/يونيو 1967، حماية الاستيطان وتوسيع رقعته. وليس من المستغرب، في هذه الحال، أن تكون معسكرات الجيش الأردني في الضفة الغربية المراكز الأولى للاستيطان. وهذه المراكز توسعت بالتدريج لتصبح مستوطنات قائمة بذاتها. وكان الأمن أحد الأهداف المعلنة للاستيطان، مع أن يتسحاق رابين رفض مراراً فكرة الدور الأمني للمستعمرات، وكان يردد أن فائدتها الأمنية محدودة جداً، إذ إن مستعمرة "إيلونموريه"، على سبيل المثال، لا تحرس مدينة العفولة، بل إن القوات الاسرائيلية هي التي تحرسها. ومن المعروف أن الأمن والاستيطان والسيطرة أمور مترابطة في التفكير الاسرائيلي، والأمن الذي توفره المستعمرات هو شأن وجودي لدى صانعي القرارات، أكثر مما هو ضرورة أمنية، لأن من دون المستعمرات تصبح القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية جيشاً أجنبياً يحكم شعباً فوق أرضه. وقد برهنت الانتفاضة الفلسطينية الأولى مجدداً أن الجيش الاسرائيلي هو جيش احتلال حقيقي، وأن صورته لدى الرأي العام الغربي هي صورة مزوّرة. وقد وضعت اسرائيل سياسة عامة للاستيطان تقضي بأن تكون المستعمرات حزاماً يطوِّق المناطق الفلسطينية، خصوصاً المناطق الموجودة عند المنحدرات الغربية لجبال القدس – الخليل، وفي الأغوار، وحول القدس. وقد بدأت المستعمرات في الأغوار كنقاط مراقبة على امتداد الجانب الغربي لنهر الأردن، وأول نقطة كانت "محولا" التي تحولت إلى مستعمرة في شباط/ فبراير 1968. وتناثرت المستعمرات إما على التلال أو عند تقاطعات الطرق بحيث تتيح للجيش الاسرائيلي تفوقاً على المناطق الفلسطينية المجاورة، أو الوصول السهل إلى مصادر المياه. وإلى ذلك، كانت المستعمرات تُبنى في مناطق متقاربة، الأمر الذي يجعلها، بعد توسعها، أشبه بمدينة واحدة ذات أحياء منفصلة. وعلى هذا المنوال نشأت الكتل الاستيطانية حول الخليل وبيت لحم ورام الله وأريحا. وفي السياق ذاته استولت اسرائيل على 60% من أراضي غور الأردن بطول 115 كلم، وعرض يتراوح بين 20 و 25 كلم،أي من بيسان شمالاً حتى البحر الميت في الجنوب، وهي من أخصب بقاع فلسطين على الاطلاق. وكانت أولى مستعمرات الغور، كما ذكرنا، "محولا" (1968)، ثم  تبعتها مستعمرتا "كاليه" و "أرغمان" في السنة نفسها، لتظهر بعدها مسوءة (1969) ومتسبيهشاليم (1970) وحمرة (عطاروت سابقاً) في عام 1971، ومعاليه أفرايموبقعوت (1972). ويمكن إيجاز مراحل الاستيطان الاسرائيلي، في ما عدا قطاع غزة والجولان، على النحو التالي: المرحلة الأولى (1967-1977) إبان حكم حزب العمل الاسرائيلي، حيث بدأ الاستيطان أولاً في القدس، فجُرف حي المغاربة وطُرد سكانه، وأعيد بناء الحي اليهودي في البلدة القديمة. المرحلة الثانية (1977-1990) إبان حكم حزب الليكود، وفي هذه المرحلة صارت المستعمرات مدناً كبيرة، ووصل عددها إلى نحو 150 مستعمرة، وعدد سكانها إلى 90 ألف مستوطن. ولم يحل اتفاق كامب دايفيد عام 1978 بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في سنة 1977، ولا اتفاقية السلام المصرية – الاسرائيلية سنة 1979، دون اتساع الاستيطان وانتشاره في جميع أنحاء الضفة الغربية ومدينة القدس. المرحلة الثالثة (1990-2000) التي شهدت تدفق اليهود الروس على اسرائيل، ولم يتمكن مؤتمر مدريد في سنة 1991، ولا المفاوضات التي أعقبته، ولا حتى اتفاق أوسلو الموّقع في 13/9/1993، دون استشراء الاستيطان، فوصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 200 ألف مستوطن، وعدد المستوطنين في القدس إلى 172 ألفاً. أما المرحلة الرابعة (2000-) فقد شهدت بناء الجدار العازل بذريعة حماية المستعمرات. وفي هذه الفترة انسحبت اسرائيل من قطاع غزة سنة 2005، ودمرت 21 مستعمرة وأجلت منها 8500 مستوطن، لكن عدد المستوطنين في الضفة الغربية بلغ في نهاية سنة 2015 نحو 400 ألف مستوطن، وفي القدس نحو 240 ألفاً، واحتلت المستوطنات 42% من مساحة الضفة الغربية التي خرّقتها الكتل الاستيطانية الكبرى مثل كريات أربع في الخليل التي بدأ البناء فيها في سنة 1968، ومثل غوش عتسيون جنوبي بيت لحم التي بدأ البناء فيها في 27 أيلول/ سبتمبر 1967.

الاستيطان والمستقبل
أسس الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية آلية للتحكّم بحياة الفلسطينيين من خلال مجوعة من الاجراءات اليومية كإغلاق الطرق وإقامة الحواجز وتصاريح التنقل، أو من خلال سياسات بعيدة المدى تهدف إلى التحكم بمصادر المياه و بالنمو المدني عبر إعاقة استيراد مواد البناء لتشييد المنازل والمدارس والمستشفيات والمؤسسات الخدمية المختلفة. وهكذا ظهرت في الضفة الغربية منظومة تمييز جلية؛ فالمستوطنون يتمتعون بحقوق المواطنة الاسرائيلية كاملة، بينما يخضع السكان الفلسطينيون للقوانين العسكرية التي تحرمهم حتى حقوقهم الأساسية مثل العمل والتنقل الحر والسكن والشرب. والواضح ان الاستيطان يهدف، في نهاية المطاف، إلى منع الفلسطينيين من السعي إلى تقرير مصيرهم في المنطقة المتبقية من فلسطين والواقعة غربي نهر الأردن. ومع أن الاستيطان، بمعنى ما ، رسم حدود اسرائيل تقريباً، إلا أنه جعل حل الدولتين غير ممكن. وللأسف، فإن اتفاق أوسلو الذي وقعته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية انطوى على تصور أن في الإمكان التوصل من خلال بنوده إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. لكن هذا الاتفاق استثنى قضايا الاستيطان والمستوطنين من المعالجة خلال الفترة الانتقالية. أما اتفاق القاهرة (4/5/1994) واتفاق اوسلو 2- الذي وُقّع في طابا في 28/9/1995 فقد جرى الاتفاق فيهما على عدم بناء أي مستعمرة في المرحلة الانتقالية التي انتهت في أيار/مايو 1999، وعلى استثناء المستوطنات والمستوطنين من أي ولاية قانونية، حتى في الأمور الجنائية، فلا تستطيع الشرطة الفلسطينية، بموجب ذلك، أن تعتقل أي اسرائيلي أو تحاكمه، بينما الأجهزة الأمنية الاسرائيلية تستطيع القبض على الفلسطينيين "الذين يُلحقون الأذى بالاسرائيليين" واستجوابهم ومحاكمتهم. وقد قبلت القيادة الفلسطينية بأن السلطات المنتقلة إليها لن تشمل المستوطنين والمستوطنات والطرق التي يستخدمها هؤلاء، وكذلك المناطق الحدودية مع مصر والأردن، والقدس الشرقية أيضاً، وجرى تأجيل التفاوض على هذه الأمور وغيرها إلى مفاوضات الوضع النهائي التي انتهت، بدورها، إلى الفشل بعد عشرين سنة من التفاوض المضني. وفي هذه الأثناء فاق عدد المستوطنات في الضفة الغربية 240 مستوطنة (ما عدا القدس)، بينها نحو مئة مستوطنة تزعم السلطات الاسرائيلية أنها "غير شرعية" وتسميها "بؤراً استيطانية"، لكنها لا تفعل أي شيء لإزالتها، وزاد عدد المستوطنين في الضفة والقدس على 640 ألف مستوطن. وهذا هو بالضبط ما أرادته الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، أي خلق أمر واقع يجعل قيام دولة فلسطينية مستقلة غير ممكن. فَمن يبتدع اليوم خطة فلسطينية مضادة لخلق وقائع معاكسة تجعل إمكان قيام دولة فلسطينية رهاناً واقعياً؟ هذا هو التحدي.