بعد أن ترسّخت دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني، أرضاً وشعباً، سادت في أوساط السّاسة والمفكّرين الإسرائيليين، نقاشات مستفيضة، تحاول الإجابة عن سؤال يعتبر بالنسبة لهم، جوهرياً وأساسياً، ذلك أن المشروع الصهيوني كان يهدف أساساً إلى قيام دولة إسرائيل، وبعد قيام واستقرار هذه الدولة لعقود طويلة، يطرح السؤال التالي: هل بقيام هذه الدولة، هدف المشروع الصهيوني، قد انتهت الصهيونية، وهل محلها، دولة إسرائيل والديانة اليهودية ويهودية الدولة؟! إجابات عديدة حاولت الوصول إلى رأي ثاقب دون أن يتوصل أي طرف إلى إجابة مقنعة تلتزم بها الأطراف الأخرى، وما زال النقاش محتدماً، في أوساط ضيقة، ولكن بعمق لدى أوساط المفكرين والمؤرخين في إسرائيل.

من المعروف أن مؤسس المنهج الصهيوني هو ثيودور هرتزل، الذي وضع كتابه في هذا السياق بعنوان 'الدولة اليهودية' إلا أن هذا العنوان أدى إلى لبس كبير لدى عدد من المتابعين، ذلك أن هرتزل نفسه وفي الكتاب ذاته يضع حدوداً واضحة بين الصهيونية السياسية والصهيونية اليهودية، ملتزماً بالأولى مع عدم اعترافه بأن اليهودية هي دين، بل إن اليهود حسب ما جاء في كتابه هم أمة مبنية على أساس العرق وليس على أساس الدين، لذلك يرى معظم المفكرين والمؤرخين، أن هرتزل اعتبر من قبل حاخامات اليهود ملحداً كافراً، وأن استغلاله لصفة 'اليهود' مجرد استثمار لمشروعه الصهيوني العلماني على أنقاض الديانة اليهودية.

أحد مؤسسي الدولة اليهودية، إسرائيل، دافيد بن غوريون، كان يرى أن التوراة ليست سوى كتاب للحكايات والمأثورات الشعبية، وذهب أبعد من ذلك عندما قال إن الجيش هو خير مفسر للتوراة، عاقداً قرانه ليس في كنيس يهودي بل في حفل مدني في مدينة نيويورك، أما أول رئيس للدولة، حاييم وايزمان فقد اعتاد على إغاظة الحاخامات عندما كان يُصرّ على تناول الطعام غير المباح وفقاً للشريعة اليهودية.. ومن الممكن العودة للعديد من النصوص والأبحاث للتدليل على أن معظم القادة الصهاينة، ليس فقط لا يعترفون بالمرجعية الدينية اليهودية، بل يحتقرونها في كثير من تلك النصوص والأحداث التاريخية.

ما جعلني أعود إلى هذا الموضوع، هو الشأن السياسي الإسرائيلي الحالي على ضوء تشكيل بنيامين نتنياهو لحكومته الجديدة، واحتمال كبير باستبعاد 'الحريديم' وهم أكثر المتعصبين دينياً من هذا التشكيل لصالح أحزاب الوسط ذات القوة الليبرالية عموماً، ما يمكن معه القول إن اليهودية لم تعد ديانة بالنسبة ليهود إسرائيل، بل يهودية سياسية بالدرجة الأولى، وشكلاً من أشكال المفاهيم الصهيونية التي أسسها هرتزل، وقد تم التحايل على هذين المفهومين المتناقضين من خلال 'المواءمة' الملفّقة بينها، وكان ذلك مع بدايات تأسيس دولة إسرائيل، ففي عام 1947 أوفدت الأمم المتحدة لجنة تقصي حقائق لمقابل الطرفين اليهودي والعربي، وكان من الواضح أن هذه اللجنة ستوصي بتقسيم فلسطين، عندها واجه بن غوريون مسألة أن يقوم حزب 'أغودات إسرائيل' عندما يلتقي باللجنة بإخطارها برأيه المتمثل برفض أي مسعى بشري لإقامة دولة اليهود، إذ إنهم يؤمنون أن شتات اليهود في العالم جاء كعقاب إلهي لمخالفتهم شرائعه وأن الوحيد الذي يملك إنهاء هذا العقاب هو الربّ من خلال بعثه لمسيح يهودي من السماء يقود اليهود إلى فلسطين ليؤسسوا مملكة التوبة والعودة إلى تعاليم الربَ! [إبراهيم البحراوي، 'المصري اليوم' 12/3/2013].

الخشية من أن يرفض هذا الحزب إقامة دولة إسرائيل، دفع بن غوريون وفي إطار 'المواءمة' إلى تقديم رشوة للحزب تمثلت في خطاب تعهدات عرف فيما بعد 'بوثيقة الأمر الواقع' وقعه مع ممثل الصهيونية الدينية في ذلك الوقت الحاخام يهودا ميمون، حول طابع الحياة الدينية في الدولة المرتقبة، كعطلة يوم السبت، والالتزام بالطعام الحلال دينياً والتمسك بالمرجعية الدينية في قوانين الأحوال الشخصية، والأهم من ذلك، هو الاعتراف باستقلال مدارس التعليم 'الحريدية'، وإعفاء تلاميذ المعاهد الدينية من التجنيد، والحظوة بميزات مالية وسكانية أكثر من أية فئة أخرى في المجتمع الإسرائيلي.

رضوخ نتنياهو، تحت وطأة نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لضرورة استبعاد 'الحريديم' المتدينين من حكومته، ربما تشكل بداية الانقلاب على وثيقة الأمر الواقع، وإذا كان بن غوريون قد رضخ لهذه الفئة من أجل تسهيل قيام إسرائيل، فإن نتنياهو على الأرجح رضخ لتيارات أقرب إلى العلمانية، بهدف استمرار بقائه ملكاً لإسرائيل، وفيما يجدد النقاش حول مدى الفرق بين الصهيونية السياسية واليهودية السياسية!!