أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية، مؤخرًا، سلسلة من القرارات في رزمة من المسائل الجوهرية التي تمسّ، مباشرة، حقوق الجماهير العربية العريضة وكذلك حقوق الفلسطينيين وتحديدًا، هذه المرّة، حقوق المقدسيين.
وللتأكيد، نذكّر أن هذه الموجة العاتية تضرب شطآننا بعدما أنهكنا ما سبقها من ضربات هوت تباعًا على ما تبقى من كواسر موج حسبناها منيعة، فأسقطتها الرعونة، لنصبح أكثر هشاشةً وعرضة لفكي كمّاشة النظام؛ حكومة وكنيست يضخّان، بإمعان وإصرار، قوانين عنصرية جائرة، ومنظومة قضاء تعمد وتعمل مسهّلاً ييسّر لكل عسير وعصيب وجامح.
بعدما صدّقت المحكمة على قرار مصلحة السجون الإسرائيلية بحجب حق التعليم العالي عن أسرى الحرّية الفلسطينيين، صدّقت أيضًا على ما عرف بقانون "المقاطعة"، وأقرّت تجريم كل من ينادي ويمارس فعل مقاطعة إسرائيل، والأخطر، في قرارها هذا، أنّه لم يستثن الأراضي الفلسطينية المحتلة وبضائع المستوطنات، على الرغم مما أقرته المحكمة والهيئات الدولية، بأن الاحتلال الإسرائيلي باطل، وأن المستوطنات تعتبر جرائم حرب. ثم جاء مباشرة، قرار المحكمة الثالث، ليقر أن أملاك الفلسطينيين المقدسيين تعتبر أملاك غائبين إذا كان أصحابها يسكنون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وبذلك يسوّغ هذا القرار لمن يسمى "القيِّم على أملاك الغائبين" أن يضع يده على آلاف العقارات الفلسطينية المقدسية، في عملية، إذا نجحت، ستستكمل مرحلة متقدمة جدًا في مسيرة تهويد القدس العربية، التي لم تتوقف، عمليًا، لساعة منذ أن زعق بوق يوشع الجديد في ساحات "البراق" معلنًا عنها حائطًا للدموع التائهة منذ ألفي عام وأكثر.
وكأننا على كوكبين..؛
فإلى طمرة الجليلية حمل عماد فرّاجين، ذلك الفنان الفلسطيني المتميّز، جرح وطنه، وشمأل، قاصدًا موئل الفرج المشتهى، حالمًا بأن يعزف حرًا، على وتر خاصرته النازفة، نشيد الفرح الأحمر والبسمة الباكية. لم تسعف عمادًا وفرقته الأماني، ولا جنّات طمرة التي على مد النظر؛ فطمرة اليوم، ككثيرات من أخواتها، ليست كما كانت، مأوى للرايات الحمراء ومنفى لمن عصوا حاكمًا عسكريًا فصارت لهم بيتًا وصدرًا وخبزًا.
ومرّة أخرى يلغى عرض الفرقة الفلسطينية المسرحي في مدينة جليلية عربية، وينتصر من هدد وتوعد متذرّعًا بدفاعه عن الإسلام وبحجته أن الفرقة، في بعض عروضها تتعرض للإسلام بمهانة وسخرية. حزب التجمع الوطني أصدر بيانًا شجب فيه موقف تلك المجموعة المعارضة وأسلوبها في التهديد والوعيد، بينما غابت كل القيادات الشعبية والجماهيرية والوطنية والإسلامية عن هذا المشهد وتركوا أعضاء الفرقة الفلسطينية الأشهر" كالهاربين من الدلفة إلى تحت المزراب"، وتركونا نحن، نردد مع جموع العطاشى "تصبحون على وطر".
وليس بعيدًا عن طمرة، في عكا، مدينة القناديل الزاهية والعرق الأسود، تلتبس الأمور على إحدى شخصياتها البارزة في السنوات الأخيرة- الشيخ سمير العاصي، إمام جامع الجزار، ووجه لا يغيب عن فرح عام أو ترح، وهو شريك مع قيادات جماهيرنا في جاهات صلح عديدة صالت البلاد من جنوبها لشمالها؛ فتجده عشية يوم الاستقلال الإسرائيلي يبرق مهنئًا بنيامين نتنياهو على نصره في الانتخابات الأخيرة، وموصيًا إيّاه بتعيين وزير يراه الأنسب والأفضل، ويؤكد لنتنياهو أنه إمام جامع الجزار "ويعتبر أهم مسجد في البلاد بعد المسجد الأقصى (جبل الهيكل) في القدس"، كما كتب الشيخ.
لن أسهب في تداعيات هذه القضية المهمة، فالشيخ عاصي أصدر مؤخرًا بيانًا أقرّ فيه بخطئه وسوء تقديره، ونشر ذلك في وسائل الإعلام المحلية.
برأيي، أن هذه القضية ليست محصورة بما كتبه الشيخ وتراجع عنه علنًا، وهي، وإن انتهت كما انتهت عليه، تبقى حبلى بمؤشرات على ظاهرة متفشية في وسطنا ولها مسبباتها الموضوعية واحتمالات تكرارها، ليس من قبل الشيخ عاصي طبعًا، تبقى واردةً بشكل كبير جدًا.
فكأننا نعيش على كوكبين..
ونتفق على ضرورة استمرار مؤسساتنا بالتوجّه إلى محكمة العدل العليا الاسرائيلية، متظلمين من سياسات القمع والاضطهاد العنصري وملتمسين عدلًا، سيكون حصولنا عليه من ذلك النمس أقرب، ولكن يجب أن نؤكد أن الاكتفاء بهذه الوسيلة سيملؤنا إحباطًا وفشلًا.
ونقر بحق من يؤمن بأنه ذراع السماء الضاربة على الأرض، بأن يدافع عن دينه وكرامة دينه، ولكن أن ينتهي إخراس صوت الفن والمبدعين بنداء: "إلى الألفة والمودة والمحبة والسلام والتسامح"، فهذا لن يؤدي إلى ألفة ومودة ومحبة وسلام وتسامح، لأن تاريخ البشرية علمنا أن التسامح غير المشروط سيؤدي، في النهاية، إلى اختفاء التسامح ذاته، فالصحيح، أن نطالب، باسم التسامح، عدم التساهل مع المتعصبين واللا متسامحين.
لكي نعيش على نفس الكوكب، نحن بحاجة إلى إعادة بناء سقفنا الوطني وتمتينه، عندها تستطيع الجماهير الواسعة أن تستظل وتستأمن بنيانًا واضح المعالم، فسيح الأرجاء والرجاء، وعندها أيضًا ستندر "سقطات الرجال"، وسيبين الغث من السمين، فإذا لم تُخضع الجماهير وقياداتها عناصر أجندات عملها "للوطني" بامتياز، سيظل دوس الكلمة الحرّة رائجًا، وإغلاق نوافذ الحيّز العام مستمرا، وانحسار هوامش حريات الابداع متداعيًا، وعندها سيغلط شيخ ويتراجع ويسقط كاهن ولا يتراجع، ويفلت رئيس مجلس محلي ويتحاذق، وتستبعد الأنثى وتعيش على تخوم "الظبات"..
فهل تعرفون ما الثمن الذي يدفعه "الطيّبون" لقاء لا مبالاتهم وصمتهم؟ أو ما كان مصير مجتمع من الخراف؟