أثناء مفاوضات كامب ديفيد بين الوفد الفلسطيني ووفد العدو الاسرائيلي، عرض الرئيس الأميركي كلينتون على الرئيس ياسر عرفات دولة مؤقتة بدون القدس. أجابه عرفات: "سيادة الرئيس أنت تدعوني أن أوقِّع على موتي. يبدو أنك يا سيادة الرئيس لم تنم جيداً أو أنك أثقلت في المشروب". ردت مادلين اولبرايت على أبو عمار: "أنتبه. أنت تُكلم زعيم الولايات المتحدة أكبر دولة في العالم".
أجاب القائد الفلسطيني: "عليه هو ألانتباه، لأنه يُكلم زعيم الشعب الفلسطيني، وانتم أول المدعوين إلى جنازتي".
في مناسبة أُخرى بعيدة عن الأولى وكعادته، يرفع ياسر عرفات شارة النصر ويُطلق هتافه: "عالقدس رايحين شهداء بالملايين". وهو بذلك يحدد الثمن الذي يجب أن يدفعه الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية لتحرير القدس.
لا شك أن للقدس مكانة استثنائية، فهي عاصمة الدولة الفلسطينية الموعودة، وبدونها لا دولة. ولها موقع قُدسي في النص القرآني، وفي الأحداث التاريخية الكبرى.
إن تراجع الاهتمام الإعلامي بالقدس خلال العدوان على غزة لا يشكل انتقاصاً من أهميتها ومكانتها، فالإعلام يكون حيث يكون الحدث، طبعاً دون أن تخلو الساحة الإعلامية من القدس، حيث سبق العدوان على غزة جريمة الاحتلال بحق الفتى المقدسي محمد أبو خضير فكانت هبة المقدسيين استنكاراً لفداحة الجريمة، ولاحقاً حين انتقل الحدث إلى غزة، كانت انتفاضة المقدسيين رفضاَ للعدوان وتضامناً مع أهل القطاع أسوةً بباقي أجزاء الوطن في الضفة وال 48 والشتات.
وحين نتحدث عن القدس، نتحدث عن المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، عن المسلمين والمسيحيين، باعتبارهم أبناء شعبٌ واحد وقضية واحدة، أثبتت الأحداث صدق انتمائهم، وهنا من المفيد أن نذكر وقفة الكنائس المسيحية أثناء العدوان الأخير على غزة، حين فتحت أبوابها للمهجرين ودعت المسلمين إلى رفع الأذان من كنائسها.
أراد العدو بعدوانه ضرب مشروع التوافق الوطني، ألاّ أن الفصائل توحدَّت في الميدان وفي السياسة والمفاوضات حيث كان الوفد الفلسطيني واحداً في تشكيلته وورقة عمله وتناغمه مع الموقف المصري وهذا ما يجب أن يستمر وفاءً للشهداء وتقويةً للموقف التفاوضي ووفاءً أيضاً للقدس التي تتطلب منا حفظ البيت الفلسطيني بالمحافظة على الوحدة الوطنية الفلسطينية وإعادة انتاج نظام سياسي مُنتخب يُعبِّر عن نبض الشارع ويعكس صدق توجهاته ويعيد اللُحمة لأطراف الوطن. وهي بحاجة إلى دعم أبنائها ومؤسساتها، لأن الصمود والبقاء، شرطان أساسيان للنجاح في المواجهة، حيث تعود اليوم القدس إلى الواجهة في التصدي للمشروع الصهيوني بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً وصولاً إلى تقسيمه مكانياً أيضاً، كما حصل في الحرم الابراهيمي الشريف في الخليل. والصهاينة يعملون على المدى الاستراتيجي باعتبارها عاصمة أبدية لدولة الاغتصاب والاحتلال.
إن بقاء القدس على رأس اهتماماتنا، والتحرك باتجاه لجنة القدس والجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي، لا يُعفي مؤسساتنا الوطنية من العمل الدائم لتعزيز الثبات ومنع الهجرة وتأمين ظروف حياتية أفضل. يحضرني هنا ذلك الحج الفلسطيني من الضفة باتجاه القدس صبيحة كل نهار جمعة حيث يتوافد الأهل مؤكدين الوحدة في معركة الحفاظ على القدس وهويتها لتأدية الصلاة في المسجد الأقصى.
إن توحدنا حول قضيتنا، يُعيد لها مكانتها كقضية مركزية للأمة التي ضاعت في زواريب القبائل والطوائف والمذاهب، وبهذا نحفظ قضيتنا، ونحفظ أمتنا، ونحن جزء منها، يصيبنا ما يصيبها في السَّراء والضراء.
بقلم: جمال قشمر