يُنسب للأعراب، أنهم تداولوا أقصوصة رمزية، عن سجال بين الحق والباطل. جعلوا الحق رجلاً ركب حماره ليعبر الصحراء المقفرة، فصادف في طريقه نقيضه الباطل، وتقطعت به السُبل، وأعياه المسير مشياً على الأقدام بلا مركوب. توسل الباطل الحق أن يحمله معه على ظهر الحمار. رق قلب الحق، لكنه أشفق على حماره من حمل الاثنين معاً. قال للباطل: تركب أنت الآن، وأنا أمشي، ثم تنزل وأركب. استراح الباطل على ظهر الحمار، وعندما نزل وجاء دوره للمشي، بدأ يضمر أمراً ويتهيأ للخديعة. ترجل الحق طوعاً ودعا الباطل للركوب. ولما جاء الدور المفترض للحق، وأضنته مشقة المسير؛ لم "يتنحنح" الباطل ولم يدعُ الحق للركوب، فطلب الحق من شريك الرحلة أن ينزل، فأجابه: كيف أمشي والحمار لي؟!
امتد السجال بينهما، دون فتح أية ثغرة في جدار الباطل الذي أصر على أن الحمار حماره، وكان الانسداد. بدا الوهن على الحق الذي تضعضعت حجته، وأعيته الحيلة، ولا شهود ينكرونه أو يؤيدونه، وهو أصلاً بلا عضلات، وليس في وسعه أن يردع الباطل وأن يحسم. تكسرت لغته، وداخت عبارته من خضيض السجال، بل أحس الحق بالرغبة في التسليم. ولكن شتّان بين من يُسلِّم ويستريح، ومن يرضخ فيشقى، وتُدمى روحه وقدماه، ويخوزقه التسليم. فإن عاند غريمه سيشقى أكثر. ساورته نفسه بأن يتوسله لكي يقطعا الصحراء معاً بتناوب الركوب. ربما يكون قد لعن الحمار المشؤوم الذي أدخله في هذا السجال، وتمنى لو أن الرحلة، بدأت مشياً على الأقدام. فمن لا يحمي نفسه، يعجز عن حماية فحواه فما بالنا بحماره. اتفق الاثنان على الاحتكام الى من يصادفهما، والى حين ظهور هذا الذي يحكم بينهما، سيظل الباطل راكباً والحق يجرجر أقدامه.
عندما ظهر الذي سيحتكمان اليه، كان الحق قد بلغ ذروة القنوط، وانعقد لسانه ولم يعد عقله قادراً على المشاركة في صياغة السؤال، أو اختصار الحكاية، التي يبت فيها الحَكَم. ترك للباطل أن يسأل وأن يلخص الموقف، فقال الباطل للرجل الثالث: مَن هو الأجدر بأن يمشي في هذه الدنيا.. الحق أم الباطل؟ أجاب الرجل: الحق طبعاً.
هنا، شد الباطل رَسَنَ الحمار في الوجهة الأخرى، وقال للحق: لقد أنْصَفَك الحَكَم.
* * *
وقيل إن باطلاً تحدى الحق يوماً فقال له: إن عندي من الحيِل ما أغطي بها وجهك الحقيقي عن الناس. أجابه الحق: وعندي من القوة ما أهتك به تغريرك بهم. عاد الباطل يقول: سأظل ألاحقك بأكاذيبي النافذة حتى يعتريك الملل. رد الحق: وسأمزق سترك الجديد ولبوسك، مثلما فعلت بالقديم. استشاط الباطل غضباً وصاح: هَبْ انك أقنعت الناس جميعاً، هل تنسى أن سندي إبليس الباقي الى يوم يُبعثون؟ أجاب الحق بهدوء: لن أيأس ما دام للكون إله عادل، وللناس عقول تفكِّر. عاد الباطل الى فَورة غضبه: أي ناس هؤلاء ناسك، حتى وإن ظفرت بمن يفكرون؟ فما أكثر الناس أيها الواهم وما أكثر نصيبي منهم. أجاب الحق: ما أكثر دعائي ثم إن ربي هو الذي يحكم بين الناس، فيما كانوا فيه يختلفون.
على الرغم من صمود الحق في السجال الثاني، إلا أنه ترخرخ وبدا عليه الوهَن في خاتمة الحوار، إذ اكتفى بحل الآخرة الذي وعد الله به الصابرين. وربما كان الحق الثاني، سيتقهقر مثلما حدث للحق الأول، بعد الجملة الأولى، لو أن الطرفين كانا في الصحراء، وكان الخلاف على الحمار، وحول أيهما أجدر بأن يمشي ويشقى.
ما زال الحوار جارياً، واقتنصنا منه هذه السطور، بينما محسوبكم على سفر، يكتب في صالة انتظار الصعود الى الطائرة، ومشهد الخلق في الصالة كما في الأوطان ينم عن قلق مقيم، وكأننا جميعاً تركنا حميرنا للباطل لكي يركب ويستريح، واسلمنا أنفسنا للمقادير ولمطبات الأرض ومطبات الهواء.